في شهر مايو الماضي حكمت المحكمة العليا لمقاطعة كيبيك بِلاشرعية الإضراب الذي نظّمه رجال الشرطة قبالة قصر البلدية بمونتريال سنة 2014. و كانت هذه الوقفة قد شهِدت بعض أعمال الشغب المحدودة ، أقصاها إشعال النار في أحد الإطارات. تصرف الأَمْنيِّين الكنديين لم يكن كارثيًّا و لم يقف عنده جل المواطنين. في المقابل يحق للمرء أن يتساءل ما الذي يجعل أفراداً يُفْترضُ فيهم الكثير من الإنضباط أن يتصرفو بهكذا '' صبيانية ''؟
ترجع بي الذاكرة إلى أواسط التسعينات و أحداث شغب عرفتها إحدى الملاعب الإسبانية و كان من بين الموقوفين حكم لكرة القدم. نبقى مع هذا الأفيون المستدير ، فأثناء المقابلة التي جمعت السنة الماضية بين الغريمين الأُرْدنيَّين الأهلي و الوحدات ، و لأن فريق الوحدات محسوب على الفلسطينيين ، لم يتردد أنصار الأهلي من ترديد '' بالروح بالدم نفديك يا إسرائيل '' نكاية في '' أعدائهم '' الفلسطينيين... لنا أن نتذكر كذلك هتافات أنصار الرجاء البيضاوي '' داعش... داعش '' و شعار '' الله أكبر.. الله أكبر حيى على الجهاد ''.
ما الناظم إذن بين كل هذه الأمثلة و غيرها كثير؟. سلوك غير متوقع ، غير منطقي و نكاد نجزم ألا أحد كان يعي ما يقول و ما يفعل. لعل التفسير يوجد في كلمة '' الجمهور النفسي '' ، مفهوم يُحِيلنا مباشرة إلى كتاب '' سيكولوجية الجماهير '' و مؤلفه غوستاف لوبون. الجمهور النفسي حسب غوستاف ، يقتضي أن كيان الشخص الواعي يتلاشى و يستسلم للتيار ، للجمهور، وللمزاج السائد. يستعمل غوستاف عبارتي اللاوعي و التنويم المغناطيسي ,( فيُقدم الفرد، أو الذي كان فرداً ،على ما لا يمكنه أن يفكر فيه حين يكون واعياً. و كأننا عند الإنضمام لجمهور ما نردد مع الشاعر الجاهلي دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ : وهل أنا إلا من غُزَية إن غـوَتْ​غويتُ، وإن ترشد غُزيَّـة أرشد.
من جهة أخرى ، يصر غوستاف على أن الجمهور لا يتكوَّن بمجرد تجمع عدد من الناس في مكان واحد. فمئات و آلاف الأشخاص الموجودين في الشوارع و الساحات ليْسوا جمهورا، بل يظَلّون مجرد أفراد يجمعهم زمان و مكان معين. حتى إذا نضج الشرط النفسي و العاطفي ، اسْتحال الجَمع إلى جمهور ، و يكفي وجود شخصية كاريزمية كي يقودهم حيث شاء و يقول بألسنتهم ما شاء ، يتساوى في ذلك الأستاذ الجامعي بِالبَدويّ الأمّي. في المقابل ، يمكن للجمهور النفسي أن يتحقق دون الوجود في نفس المكان ، إذ تكفي الوحدة العاطفية. و لعلنا عشنا كمجتمعات عربية و إسلامية عدة محطات تؤكد هذا الطرح. يَذْكر التاريخ كيف تجاوب المغاربة مع اغتيال النقابي التونسي فرحات حشاد ، و كيف انتظمت المظاهرات المنددة بالعدوان على فلسطين و على العراق ، و كيف غضبت الجموع من الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم. و ستتكرس لاحقاً فكرة الجمهور النفسي اللاَّمكاني مع الثورة الرقمية و مع مواقع التواصل الإجتماعي. و كان الربيع العربي فرصة لتطوير مفهوم '' الجمهور الرقمي '' في بلداننا.
من الناحية القَيْمية ، فالجمهور ليس طيبا و لا شريراً بذاته، إنما هي العواطف و الإنفعالات مَن تحدد قِبْلته. إذ كما قتلت الجماهير الغاضبة طفلة صومالية لاشتباههم في سلوكها ، نجد جمهور البارصا ( فريق برشلونة)يخص اللاعب أبيدال باستقبال تاريخي.و كما خرجت الجماهير العربية للمطالبة برحيل حكامها ، نزل الأتراك للدفاع عن رئيسهم. بالنسبة لنا في المغرب ، لنا أن نسوق المسيرة الخضراء كاستغلال مُوَفَّق للجمهور النفسي و للنَّفس الجماهيري في استكمال الوحدة الترابية. نَفَسٌ سيكتسي شحنة سلبية في مناسبات أخرى. فيخرج الجمهور المغربي يُمظْهر غضبه و نقمته و استياءه ، ينذب حظه و ينفسُّ عن مكبوتاته ، تقوده تارة فعّاليات يسارية و حيناً تيارات إسلامية.
نوجز فنقول ، هي روح تتلبس الجماعات تذيب شخصيات الأفراد ، عاطفية إلى أقصى حد ، سريعة الإنفعال ،لا يتيسر دائما التكهن بمآلات صَرعاتها. إن كانت قد وسوست لشُرطة مونتريال بإحراق العجلات ، فحذاري أن توحي ل'' المطحونين '' من أبنائنا أنِ احرقوا الوطن بأسره. ولن تنفع حينها التوجيهات و التحقيقات المعمقة. تلكم رسالة غوستاف لوبون كتبها سنة 1895 و ما فتئت تحوز راهنيتها ، خاصة في الأمم التي لم تسمع بعد بشيء إسمه العقد الإجتماعي، فهل من مُعْتبر؟

*كاتب مغربي مقيم في كندا