بلسان جزائريي 2012، فإنّ أكثر ما يميّز رمضان بلادهم، هي تلك quot;القعداتquot; الشعبية، وهي مجالس حميمية تتخللها فقرات تنشيطية، يتم خلالها الاستمتاع بقصائد فن الشعبي حول موائد موشاة بشتى أنواع الحلويات، بحضور الشاي الممزوج بالنعناع، والقهوة المنعشة بماء الزهر.

في تصريحات خاصة بـquot;إيلافquot;، يبدي عديد سكان الحواضر الجزائرية الذين استجوبناهم، ارتياحا لانبعاث هذه quot;القعداتquot; المميزة التي اشتهرت محليا منذ القدم، وعادت لتترسخ تدريجيا بعدما اختفت بشكل ملحوظ منذ ثمانينيات القرن الماضي.
وتتسم هذه quot;القعداتquot; بحضور مميّز لأعلام الفن الشعبي الجزائر أمثال: أعمر الزاهي، عبد المجيد مسكود، محمد طماش، سيد علي دريس، عبد العزيز بابا عيسى، كمال عزيز، إبراهيم باي وغيرهم.
يشير العم quot;إسماعيلquot; إلى أنّ quot;القعداتquot; هي إرث اجتماعي نفيس، حيث ينظمها السكان المحليون وفق طقوس وتوابل منّوعة بين الشمال والغرب مثل الشرق والجنوب، حيث تتمايز هذه القعدات وتأخذ أنماطا وخصائص متعددة، لكن عنوانها الأكبر يقوم على إعادة الاعتبار للفن الشعبي المحلي الذي تمتزج فيه طبوع القصيد الحضري بالفلكلور الصحراوي ناهيك عن الحوزي والشاوي والوهراني وغيرها.
وكان الراحلان الحاج العنقى والهاشمي قروابي من ألمع نجوم هذه القعدات، فيما لا يزال كوكبة من quot;شيوخ الأغنية الشعبيةquot; يصنعون أيامها العتيدة مثل: عزيوز رايس، نصر الدين قاليز، فضيلة الدزيرية، راضية عدّة، بريزة السطايفية وغيرهم.
في العاصمة الجزائرية ومدن الشمال عموما، عادة ما يلتقي الشباب والكهول إضافة إلى نساء وفتيات من خلف الحجب عند (اللشياخ) وهم فنانو الشعبي الذين يتغنون بأروع قصائد التراث الشعبي المحلي وكذا العربي، ويقومون بتقديمها في قوالب مبهجة يتم فيها أيضا استخدام آلات موسيقية كالعود والجيثار والبونجول والقويطرة والدربوكة، وعادة ما تنتظم هذه القعدات على هامش الأفراح وتمتد إلى خيوط الصباح الأولى.
ويشير quot;جهيدquot; أحد الفنانين الشعبيين الشباب، أنّ هذه القعدات لها مفهوما يزاوج بين المتعة الفنية واللذة الروحية، وبمنظاره فإنّ هذه القعدات المتوارثة منذ عشرينيات القرن الماضي، أسمى في عيون منشطي وحاضري هذا التقليد العريق، من حفلات الراي والديسك جوكي التي تمثل بمنظار فتحي، أيمن وسمير رمزا بحسبهم لـquot;الرداءة والابتذالquot;.
بغرب الجزائر، تجتمع النسوة في قعدات تنطلق في مستهل الليل أمام صينيات الشاي التي يتم ترصيعها بالأطباق الشعبية المعروفة محليا كـquot;الرفيسquot; أو بعض الحلويات التقليدية المتداولة بالمنطقة مثل حلوى quot;المعكرةquot; لتكتمل بذلك طقوس quot;القعدةquot; التي تخصص في الغالب لتبادل أطراف الحديث حول شؤون متعددة وقضايا تهم الحياة الشخصية لبنات حواء، مثل ما يرتبط بقضايا المرأة والطبخ وبعض المسائل الأخرى التي تلامس مجالات حياتية عصرية بينها مستجدات الموضة وفنون التجميل.
وتكتسي هذه القعدات محليا بخصوصيات قائمة بذاتها من خلال الرجوع إلى بعض التقاليد الخاصة كاستحضار بعض الأعراف الشعبية المتداولة ضمن ما يسمى بـquot;القولquot; وquot;الصفquot; وهي مجموعة من الأبيات الشعرية الشعبية ترددها النسوة بينهن بشكل جماعي يعالجن من خلالها موضوعا بارزا ومحورا هاما قد يكون ذا صلة وطيدة مع بعض المستجدات الاجتماعية.
بدورهنّ، تنساق نساء الشرق في قعداتهنّ وراء الأبيات الشعرية المتغنية بتاريخ البلاد وبطولاتها على غرار ثورة الأمير عبد القادر الجزائري والمقراني ولالا فاطمة نسومر وأولاد سيد الشيخ وبوعمامة التي غالبا ما مثلت مرجعية هامة في هذا الإطار، فضلا عن التغني بالخصال والشخصيات الذائعة الصيت وطنيا، وعادة ما تكون تلك الأبيات منتظمة في شكل قوافي شعرية محافظ عليها ضمن الوزن الشعري الذي يطغى عليه الشعر الملحون في أكثر من حلقة كما تقول فلّة إحدى المواظبات على حضور هذه القعدات.
ويتميز ديكور quot;القعداتquot; بمسحة جمالية تصنعها quot;موضةquot; النساء الحاضرات من خلال ما يرتدين من لباس تقليدي مزين بالفن المعروف بالمجبود أو الطرز المذهب، وهو زي عادة ما تكتمل صورته بلون الحنة التي غالبا ما تزيّن أيادي تلك النسوة ضمن أشكال مختلفة منقوشة في غاية الروعة والتناسق تعكس مدى الذوق الفني الذي تتمتع به المرأة الجزائرية والتي عادة ما تشتهر بالاهتمام بمظهرها الجمالي.
ولا يغفل منظمو القعدات، أدنى التفاصيل التي يعدّونها بعناية، مثل إحضار نبتة quot;النعناعquot; المحلية المنعشة بنكهتها، وكذا عشبة quot;الشهيبةquot; التي تعطي الشاي مذاقا ساحرا، ويقدّم الشاي في إبريق من الحجم الكبير تطول معه quot;القعدةquot; ويحلو معه الحديث في مواضيع ومجالات شتى يستحضر فيها عرّابو القعدة حاضرهم وماضيهم معا، وتعود بهم الذكريات بنوع آخر من الحنين إلى فن القعدة قديما، حيث كان قائما على الاستعراضات وألعاب الفروسية ورقصات الطريقة الصوفية.
وفي الجنوب الجزائري، حيث ازدهار الطرق الصوفية بفعل ما تنهض به الزوايا هناك، تعرف السهرات الرمضانية، بروز قعدات خالصة تمارس خلالها رقصات شعبية رائجة من ضمنها رقصة الحضرة التي تقام لأجل الذكر والتعبد وتلاوة القران.
والأصل في قعدات الجنوب هو الذكر، فيه تستفتح وفي فضائه تدور، وعليه يتألق شعراء quot; القصيد الشعبي quot; الذين يتسابقون في ترديد أذكار صوفية زهدية تحث على عبادة الله سبحانه وتعالى وطاعة رسوله، وتستعمل فيها آلة الدف أوما تسمى محليا بـ (الطارة)، حيث ترسل نوع من النشوة والنشاط في الشخص الذي يسمعها أثناء تأديته لحركات الصعود أو النزول أو الميل يمينا وشمالا.
ويشكّل كل الحاضرين حلقة وهم جلوس، ويتخذ أعضاء فرقة الإيقاع الذين اشتهروا بمسمى ( المداحة ) ويبدأون في ممارسة شبه quot;كرنفالquot; شعبي، وهو ما تشتهر به منطقة القنادسةالتابعة لمحافظة بشار (1300 كلم جنوبي شرق).
ويردد المدّاحة مجموعة من القصائد الشعبية الشهيرة في رمضان، بينها:
صلى الله على المصطفى
سيدنا محمد نرجا أشفاعتو
يارجال الله الصلاح وين كنتو حضرو
من زار وزار انزوروا لمقام ما هنانــي
يا الشيخ مولاي الطيـــب ياللي ضـــامني
رســـــول اللـــــه وين كانــــت النوبــة
مــــــن عــــندو المفــــتاح أيــحل الباب
نــــــوحــــــي وأبكـــــي يـــا عيـــــــني