بالرغم من رضوخ فرنسا لتقشف أنجيلا ميركل، وتأليفها حكومة إصلاحية، تبقى المستشارة الألمانية في عزلة أوروبية متصاعدة، بسبب تمسكها الشديد بإجراءاتها التقشفية التي تفرضها على دول منطقة اليورو المأزومة.


إعداد عبد الاله مجيد: أقال الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند حكومته للتخلص من منتقديه اليساريين، وفي مقدمتهم وزير الاقتصاد ارنو مونتبورغ، الذي كان دائم الاحتجاج على الاجراءات التقشفية، مطالبًا بأن تكف الحكومة الفرنسية عن الرضوخ لما سمّاه "هوس اليمين الالماني" بالتقشف.

وكان الوزير المقال يشير إلى إلحاح المستشارة الالمانية انغيلا ميركل منذ سنوات على ضرورة أن تتحرك فرنسا جديًا لحل مشاكلها البنيوية، قائلة إن هذا هو السبيل الوحيد لاستئناف دورها بين قادة أوروبا.

الضغط على ميركل

أسفر اجراء هولاند عن حكومة مع الاصلاحات التي تدعو اليها ميركل. لكن هولاند يريد في الوقت نفسه تشديد الضغط على ميركل، لكي تعيد النظر بمعالجتها الاقتصادية لمشاكل منطقة اليورو، بل طالب خلال القمة الأخيرة للاتحاد الأوروبي بالاتفاق على اجراءات تحفز النمو الاقتصادي، ويعني هذا في فرنسا عادة ضخ المزيد من المال إلى الاقتصاد.

&ويتركز الخلاف مع المانيا على القضية التي تسببت في انقسام أوروبا منذ أزمة اليورو، إذ كانت المستشارة الالمانية تطالب دول الاتحاد الأوروبي التي طالتها الأزمة باجراء اصلاحات بنيوية عميقة تقترن ببرامج تقشفية قاسية. وأخذت باريس من الجهة الأخرى على عاتقها تمثيل الدول التي تطالب بجعل ميثاق الاستقرار أكثر مرونة، من أجل إفساح المجال لدفع عجلة النمو الاقتصادي، على أن تأتي الاصلاحات المؤلمة لاحقًا، إن أُجريت أصلًا.

أوروبا مهددة

وكانت كفتا الصراع بين المعسكرين متعادلتين حتى الآونة الأخيرة. لكن فرنسا كسبت حلفاءً جددًا على نحو غير متوقع في هذه المعركة، إذ انضم الرئيس الجديد للمفوضية الأوروبية جان كلود يونكر إلى هولاند ورئيس الوزراء الايطالي ماتيو رينزي في المطالبة بتفسير مرن لقواعد ميثاق الاستقرار. ويلقى هذا الموقف دعم الحكومة الاميركية وصندوق النقد الدولي ايضًا.

وخلال اجتماع للفائزين بجائزة نوبل عُقد في آب (اغسطس) على ضفاف بحيرة كونستانس، أجمع الاقتصاديون الحاضرون على انتقاد سياسة ميركل الاقتصادية تجاه منطقة اليورو، قائلين إن أوروبا مهددة بضعف دائم في النمو إذا استمر العمل بالضوابط التي تحكم معدلات العجز المالي، وتطبيقها تطبيقًا جامدًا. وإزاء معدل التضخم البالغ حاليًا 0,4 بالمئة، حذر العديد من الخبراء الاقتصاديين من مخاطر الانكماش، بل ذهب المتشائمون إلى أن أزمة اليورو يمكن أن تعود مجددًا.

سياسة مالية صديقة للنمو

لكن ميركل، ووزير ماليتها فولفغانغ شويبلة، ما زالا على اقتناع بأن منطقة اليورو تبقى مهددة بالانتكاس، ولا يحيدان عن الطريق الذي سارا فيه حتى الآن.

بيد أن هذه القناعة الثابتة لديهما توضع الآن موضع تساؤل من كل الجهات. وعلى سبيل المثال، البنك المركزي الالماني نفسه يدعو إلى زيادة الأجور. ويبدو أن البنك المركزي الأوروبي يؤيد اعتماد شكل من اشكال التحفيز المالية لاستنهاض النمو الاقتصادي.

وتنظر برلين بقلق إلى موقف رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي بصفة خاصة، وكان دراغي فاجأ الجميع خلال مؤتمر لمحافظي البنوك المركزية من انحاء العالم عُقد أخيرًا في ولاية وايومي الاميركية بالاشارة إلى وجود مجال للتوصل إلى سياسات مالية صديقة للنمو. وكان تصريح دراغي قريبًا من الاجراءات التي يطالب بها الرئيس الفرنسي لتحفيز النمو بالاقتراض.

وحيدة في موقفها

أسفر هذا الموقف عن محادثة هاتفية مفاجئة بين ميركل ودراغي، لا سيما أن المستشارة ووزير ماليتها يحرصان على ألا يفعلا أي شيء قد يوحي بتدخلهما السياسي في شؤون البنك المركزي الأوروبي. لكن ميركل أرادت أن تعرف ما قصده دراغي بتصريحاته في الولايات المتحدة، وما إذا كانت تنبىء بتخلي البنك عن سياسة التقشف. ففي هذه الحالة، ستكون ميركل وحيدة في موقفها.

بعد أن كشفت مجلة شبيغل عن اجراء المحادثة الهاتفية الغريبة، أصرّ متحدث باسم الحكومة الالمانية على أن ميركل لم تتصل بدراغي، بل هو الذي اتصل بها. وأضاف: "القول بأن ميركل نقلت إلى دراغي وجهة نظر مختلفة عن رأيه لا تمت إلى الحقيقة بصلة".

لكن شبيغل نقلت عن مصادر قولها إن دراغي حاول تهدئة المستشارة، مشيرًا إلى أن القسم الآخر من كلمته في وايومي كان مكرسًا لضرورة اجراء اصلاحات بنيوية في دول منطقة اليورو التي تعاني من الأزمة.

جبهات أخرى

تقاتل المستشارة الالمانية الآن على جبهات أخرى، للدفاع عن موقفها في فرض اجراءات تقشفية على دول اليورو المأزومة. فعلى امتداد اسابيع، حاولت برلين منع بيير موسكوفيتشي من تولي مفوضية الشؤون النقدية في الاتحاد الأوروبي. والمعروف أن موسكوفيتشي، قبل إقالته من وزارة المالية الفرنسية في نيسان (ابريل)، لم يقدم ميزانية واحدة تلتزم بقواعد الاتحاد الأوروبي. وعلمت مجلة شبيغل أن الحكومة الالمانية يئست الآن من محاولة ابعاده عن مفوضية الشؤون النقدية، وسلَّمت بتعيينه.

ومع اتساع جبهة منتقدي موقف ميركل، تواصل المستشارة معارضتها لقراءتهم الوضع الاقتصادي في أوروبا. وهي كثيرًا ما تحضر اجتماعات الحكومة الالمانية، ومعها ملف مليء بالرسوم البيانية والجداول الحسابية التي تؤكد حدوث تحسن في المؤشرات الأساسية لاقتصادات دول مأزومة مثل البرتغال واسبانيا واليونان، بفضل الاجراءات التقشفية التي فرضتها المستشارة على هذه الدول.

رجل أوروبا المريض!

لكن الاقتصاد الفرنسي وحده، الذي تتخذ مؤشراته منحى آخر، يتمثل بتوقف النمو وتراجع القدرة التنافسية وارتفاع معدلات البطالة وسنوات من عجز الميزانية، بنسب تزيد على 3 بالمئة من اجمالي الناتج المحلي، هي الحد الأقصى المسموح به بموجب قواعد الاتحاد الأوروبي. وتعتقد ميركل أن فرنسا أصبحت ما كانت المانيا عليه&قبل عشر سنوات، يوم نالت لقب "رجل أوروبا المريض".

وحين اعلن هولاند حكومته الجديدة ذات التوجه الاصلاحي، تسابق وزراء الحكومة الالمانية ومسؤولوها الكبار على كيل المديح لها. لكنّ حتى المتفائلين الأقحاح في برلين يعتقدون أن احتمالات حدوث تغيير مفاجئ ضئيلة. فأغلبية الاشتراكيين، بزعامة هولاند، لا تزيد على مقعدين في البرلمان، ومن شأن هذا أن يتيح ليسار الحزب أن يجهض بسهولة أي مقترحات مثيرة للجدل. وقال مسؤول ألماني كبير إن الوقت فات على الأرجح، لأن هولاند تحرك متأخرًا.

المرونة مطلوبة

ونال وزير الاقتصاد الفرنسي الجديد ايمانويل ماكرون كثيرًا من ثناء برلين. وكان المصرفي السابق في روتشيلد، البالغ من العمر 36 عامًا، حاول توجيه هولاند نحو الاصلاح في وقت سابق. كما كان من المعارضين لفرض ضريبة بنسبة 75 بالمئة على من تزيد دخولهم على مليون يورو، كما تعهد هولاند في واحد من وعوده الانتخابية الكبيرة. ونُقل عن ماكرون قوله: "إن فرنسا هي كوبا من دون شمس".

لكن ماكرون المعروف والمحترم في برلين محسوب ايضًا على منتقدي سياسة ميركل رغم تأييده لفكرة الاصلاحات البنيوية. وأوضح في أحاديث وراء الكواليس أنه يعتقد بأن المانيا تغالي في تشديدها على التمسك بضوابط العجز. والأكثر من ذلك أن المحافظين الفرنسيين، مثلهم مثل اليسار، يؤيدون انتهاج سياسة نقدية أكثر مرونة.

متنفس للفرنسيين

إزاء هذه المواقف، يتوقع مراقبون أن تواجه برلين خيارًا صعبًا بين تأييد الاجراءات الأوروبية لمعاقبة فرنسا شريكتها الرئيسية في أوروبا على خرق ضوابط العجز المالي وتوجيه ضربة مهينة أخرى إلى هولاند أو الاستمرار في تفسير هذه الضوابط تفسيرًا فضفاضًا مرنًا لصالح فرنسا. لكن مثل هذا الموقف يضفي مصداقية على الاتهامات القائلة إن الدول الأعضاء الصغيرة فقط مطلوب منها أن تلتزم بقواعد العجز المالي.

وتؤيد وزارة الخارجية الالمانية التساهل مع فرنسا. ونقلت مجلة شبيغل عن مسؤول في الوزارة أن الدرجة العالية من قلق الحكومة الالمانية إزاء كل ما يُزعَم بشأن التخلي عن التقشف موقف ليس مفيدًا، "وعلينا أن نعطي الفرنسيين متنفسًا".

ويريد الفرنسيون من جهتهم تخفيف الضوابط على كل الدول الأعضاء كي لا يكونوا وحدهم الخارجين عنها، ولأنهم مقتنعون بصواب ايضًا. واقترح رئيس الوزراء الايطالي مع هولاند أن تُستثنى الاستثمارات في التكنولوجيا والتعليم من حسابات العجز.

الديون تتراكم

في مواجهة هذه التفاهمات، تبحث المانيا عن حلفاء. وخلال المفاوضات بشأن ميزانية الاتحاد الأوروبي للسنوات المقبلة، ضمت برلين قواها إلى بريطانيا والدول الاسكندنافية لقطع الطريق على مقترحات الانفاق التي قدمتها فرنسا ودول جنوب أوروبا الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

ويتمثل السؤال الحاسم من وجهة نظر المانيا في ما إذا كانت فرنسا وايطاليا جادتين بشأن الاصلاحات البنيوية. وحينذاك فقط، يمكنهما التأثير في موقف ميركل. وكان رينزي اعلن برنامجًا من الاصلاحات الجذرية، لكنه اصطدم بمصاعب سياسية بعد اعلانه. وفي هذه الأثناء، يواصل الفرنسيون تجميع ديون جديدة وخرق عهود قديمة بالاصلاح.&