ممثل يهتف باسقاط رأس النظام واهالي قرية يكتبون اسم مي اسكاف بالشموع:


دبي -محمد منصور

عزاء حافل بآلاف المشيعين والمتظاهرين، وحمل المايكروفون طالبا من الحضور أن يهتفوا وراءه: (إيد واحدة... إيد واحدة... الشعب السوري إيد واحدة) كان الصوت والوجه معروفاً... وكذلك النسب العريق، وسرعان ما اشتعل المكان بالهتاف والتصفيق، فكان هتافه الأخير: (عاشت سورية ويسقط بشار الأسد).
إنه الفنان محمد آل رشي... ابن الفنان الكبير عبد الرحمن آل رشي أحد أعمدة الدراما السورية الكبار منذ انطلاقتها في ستينيات القرن العشرين... وتستطيع ذاكرة الثورة السورية الآن... أن تسجل أن محمد هو أول ممثل سوري هتف بإسقاط رأس النظام... وقبل ذلك وفي جمعة أسرى الحرية في الخامس عشر من تموز/ يوليو الجاري، وقف محمد آل رشي وسط تظاهرة في حي ركن الدين الدمشقي ذي الأغلبية الكردية، وراح يهتف: (كاذب... كاذب... كاذب... الإعلام السوري كاذب).
محمد آل رشي الآن ليس وحيداً، فمعه وربما قبله العديد من الفنانين والصحفيين الذين كسروا حاجز الصمت، وخرجوا من ثوب التعليقات المناصرة للاحتجاجات الشعبية على صفحات الفيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي الأخرى، لينزلوا إلى الشارع.
نعم نزلوا إلى الشارع في مشهد احتجاجي لم يكن يتخيل أحد في سورية أن يلحق به الفنانون، فلقد تابع السوريون على مدار أشهر، الجهود التي بذلها فنانوه كي يقفوا في صف النظام، قولا وفعلاً... وحتى عندما خرقت السيدة أصالة نصري هذا الإجماع ودعمت الثورة من مقر إقامتها في مصر، وجدت من يرد عليها من زميلاتها الفنانات ويصفها بأبشع الصفات والنعوت كما فعلت سوزان نجم الدين ثم رغدة، التي عيرت أصالة بأنها استفادت من نظام الأسد في علاجها، وكأن أصالة ليست مواطنة سورية، ولا يحق لها أن تعالجها حكومتها على حسابها وهي فنانة ذات وزن وقيمة!
مظاهرة الفنانين والمثقفين التي انطلقت إلى حي الميدان في الثالث عشر من الشهر الجاري، والتي تقدمتها الفنانة مي سكاف والفنان فارس حلو، والكاتبتان الدراميتان يم مشهدي وريما فليحان، والمخرج نضال حسن، والممثلة إيمان الجابر والأخوين محمد وأحمد ملص ورامي العاشق وغيرهم من الصحفيين والناشطين أبرزهم إياد شربجي ودانا بقدونس، شكلت حدثا مدويا في الوسط الفني قبل الثقافي... فلأول مرة يخرج فنانون في تظاهرة منددة بالنظام، وهم الذين اعتادوا أن يكونوا في الصفوف الأولى في المسيرات والاحتفالات منذ عهد احتفالات الحركة التصحيحية أيام الراحل حافظ الأسد، وحتى عهد ولاء القسم للرئيس بشار الأسد، وهم ما فتئوا يداومون في الظهور على الشاشات منذ اندلاع الاحتجاجات ليتحدثوا عن مندسين ومخربين ومؤامرات تستهدف سورية، ويبكوا ويتباكوا على شهداء الأمن والجيش، دون أن يلتفتوا إلى شهداء المدنيين من أبناء شعبهم الذي طالما صنع مجدهم وكرس نجوميتهم.
المظاهرة التي انتهت باعتقال بعض الفنانين والصحافيين والمشاركين وعلى رأسهم السيدة مي سكاف، التي سبق أن أدرج اسمها مع الكاتبة ريما فليحان في لائحة مقاطعة أصدرتها شركات الإنتاج التلفزيوني بسبب توقيعهما على بيان يناشد الحكومة السورية ذاتها بفك الحصار عن أطفال درعا، وسماه أنصار النظام استهزاء (بيان الحليب) تركت هذه المظاهرة أثرا سيئا على صورة النظام الذي كان يسأل الناطقون باسمه على الشاشات: (هل الفنانون والكتاب الذين تم اعتقالهم في تظاهرة الميدان هم سلفيون ومسلحون) سؤال لم يكن يجد له أولئك المحللون أي جواب سوى القفز عنه إلى مماحكات جانبية مع مذيعي الفضائيات المغرضة... ولهذا حرصت السلطات الأمنية على إطلاق سراحهم بعد أن اقتيدوا إلى فرع الأمن الجنائي في منطقة باب مصلى بدمشق... وهو الفرع المختص بملاحقة المجرمين واللصوص وتجار المخدرات... لكن مي سكاف ومن معها من الكاتبات والناشطات، رفضن إطلاق سراحهن دون الشباب الذين اعتقلوا معهم وتعرض بعضهم للضرب المبرح والإهانة كما صرحوا هم بذلك بعد الإفراج عنهم... وأمام عزمهم الدخول في إضراب عن الطعام، جرى تحويلهم إلى القصر العدلي وهم مكبلين بالقيود، ثم أطلق سراحهم.
الفنانة مي سكاف والصحافيون والناشطون الذين لم معها، قرروا الاعتصام في إحدى مقاهي دمشق، للمطالبة بالإفراج عن باقي المعتقلين... وهناك تعرضوا لحصار الشبيحة من أنصار النظام وشتمائهم، وفي اتصال لها مع قناة العربية، حملت مي سكاف السلطات السورية مسؤولية حمايتها، بدل اللجوء إلى التغاضي عن هذا التجييش الفئوي والشوارعي، الذي لا يندرج تحت بند الاحتجاج السلمي بل تحت طائلة التهديد بالاعتداء والضرب والسب والقذف وامتهان الكرامة... وتمت حماية مي سكاف ومن معها، بعد قدوم قوات الشرطة التي أحرجها وصول صوت هذه الفنانة الحاد إلى ملئ أسماع الفضائيات!
لم تنته معركة الفنانين الذين كسروا طوق الموالاة الغليظ والمحكم عند هذه التظاهرة... بل قدموا شهادات مؤثرة عما جرى معهم، وعما رأوه من روح شعبية عظيمة تهيمن على الشارع السوري المحتج اليوم، فكتب الفنان فارس حلو على صفحته على الفيسبوك تحت عنوان (أيها المحبون الرائعون شكرا لكم) يقول واصفا ما حدث في تظاهرة الميدان:
(واجهتنا زحمة مرورية خانقة لما توجهنا إلى المكان المتفق إليه، وكانت الزحمة تشتد كلما اقتربنا أكثر.. شرطة المرور تقوم بتغيير مسارات الطرق وخربطتها لإعاقة وصول المحتجين..
انتهزنا مساحة فراغ لنركن السيارة ولنتوجه سيراً على الأقدام.. سبقنا شباب متطوعون لاستطلاع الوضع الأمني وكيفية نفاذنا للمكان الذي بلغنا أنه محاصر.. بعضنا توجه للشوارع الفرعية لعلها تنفع.. فوجئنا بمقابلة عدة فتيات باكيات عائدات أخبرننا باعتقال بعض أصدقائنا وأخبار أخرى غير مؤكدة باعتقال البعض الآخر .. وأن مظاهرة تأييد انطلقت واحتلت المكان.. وكل هذا جرى قبل الوقت المحدد!!!
لم تطل الخيبة حتى كان القرار بالتوجه نحو سوق الميدان (الجزماتية).. كنا قلة قليلة وقلقة، وما إن وصلنا حتى دهشت من حجم المجموعة وقد كبرت .. كثر انضموا لها، صرنا في وسطها شباب وفتيات أغلبهم لاأعرفهم...
فجأة صدح صوت سماوي لأحد الشجعان بهتاف البدء ولتردد وراءه الحناجر الذهبية: هي يالله هي بالله مامنركع غير لألله.. وليعقبه بهتافات تنفي الطائفية والإثنية لصالح الحرية والمدنية.. وهتافات لإسقاط النظام والتعاضد مع المحافظات والبلدات الثائرة)..
ويتابع الفنان فارس حلو معلقاً:
(لحظات لاتنسى .. كأني أسمع صوتي للمرة الأولى مع قشعريرة رقيقة جعلت عيناي تدمعان.. كانت التظاهرة كعرس يختال على جنبات السوق المزدحم بالناس.. بعضهم هرع ليفتح طريقاً للتظاهرة ولتنظيم السير.. زاد من سعادتي وفرحتي أننا كنا بين الناس وخلفهم وليس أمامهم.. وأن التظاهرة كانت بحق عفوية.. أحد الشباب الثائرين اقترب مني وهمس لي أن كفى .. وكأطفال صغار سمعنا منه واكتفينا. أعتذر منكم جميعاً لقلقكم وأحمّل المسؤولية على من أمر بتغييب الإعلام عن سوريتنا الحبيبة).
نشاط الفنانين المنحازين للحراك الشعبي يتواصل، وفي سبت تشييع الشهداء حضر فارس حلو ومحمد آل رشي وفدوى سليمان مجالس عزاء، وسار بعضهم في تظاهرات من جديد... وهكذا يتوالى التعبير الحر، عن أعمق حالة انشقاق فني يمثلها هؤلاء... فرغم أنهم قلة قليلة قياسا للجموع الموالية من زملائهم، إلا أن الصدى الإعلامي الذي يحققونه، والأثر الجماهيري الذي يتركونه في نفوس الناس، يجعل من هذا الإنشقاق الرمزي مؤثراً ومربكا... ففي ريف مدينة حمص، أشعل أهالي قرية تلبيسة الشموع ليلاً ليكتبوا بها اسم مي سكاف يكسر عتمة الليل البهيم... فهل يعيد هؤلاء بعض الثقة الشعبية بإمكانية أن ينحاز الفن لحراك الشعوب قبل أن تحسم هذه الشعوب معركتها، وترفع قوائمها عن فناني العار، وفناني الشرف... أم أن على الفنانين السوريين الذين غردوا خارج سرب الموالاة أن يتحملوا الإجراءات العقابية التي تنتظرهم من وسط فني، لا يرى مصلحة الوطن، إلا ما يراه النظام؟!