عبد الاله بلقزيز


يتحدث من يتحدث في مجتمعاتنا عن الثورة وكأن نموذجها واحد في التاريخ، يتكرر في أزمنة ذلك التاريخ على النحو نفسه، كما لو كان النموذج ذاك قانوناً من قوانين الطبيعة الصماء . لسان حالهم يقول: لابد للثورة من دماء تسيل، ومقاصل تنصب، ودمار يعم المدن، وحرب أهلية تتآكل فيها الأرواح، وفوضى اجتماعية لا مهرب منها، ثم إن للثورة مدى زمنياً تتطور فيه، تصعد وتهبط، وتأتي بالغث والسمين إلى المشهد، إلى سدة السلطة، قبل أن يستقر لها الأمر، في المطاف الأخير، فتظفر بإرادة الشعب .


ذلك ما نقرأ شيئاً كثيراً منه، منذ سنوات خلت هلت فيها quot;الثورةquot; في بلادنا العربية، وكثر فيها quot;المنظرونquot; حتى ضاقت بهم الأرض بما رحبت . ما نشاهده من اغتيال منظم لانتفاضات الشباب في تونس ومصر، ومن سطو عليها من قبل قوى كلانية (توتاليتارية)، لم تشارك الشباب في انتفاضاته إلا في الهزيع الأخير منها (بعد أن تبينت علائم ظفرها)، وما شاهدناه من احتكار للسلطة من قبلها، ومن تجاهل استعلائي لمطالب الشعب والمعارضة، هو - في عرف هؤلاء - محض سياق استطرادي من سياقات quot;الثورةquot; لن تلبث موجته أن تنحسر، فتستعيد الثورة زمام أمرها . وما نشاهده من فصول القتل والتدمير والفتك بالدولة والمجتمع في سوريا، من تقتيل جماعي، وتحطيم للاقتصاد، وتفكيك للدولة، وتخريب للنسيج الوطني والاجتماعي، إنما هو - عند quot;منظريquot; quot;الثورةquot; - في جملة الثمن الذي quot;يهونquot; دفعه من أجل سوريا quot;الديمقراطيةquot;، وأن غيرها من بلدان العالم دفع أثماناً شبيهة كي تكسب الثورة فيها قضيتها، وأن quot;لا خوف على سورياquot; من الحرب الأهلية والفوضى وتدفق السلاح والمسلحين، إنما الخوف عليها من بقاء النظام القائم فيها .
وما جرى في ليبيا من تدخل عسكري أجنبي لمساعدة quot;الثوارquot; على إسقاط النظام، وما يجري اليوم من تناهب للسلطة والثروة بين المليشيات، ومن تفكيك لبقايا الدولة، وتقاسم للأقاليم ومنشآت النفط، وعودة بالبلاد إلى التقاتل بين القبائل، وممارسة أبشع أنواع القصاص العشائري من المحسوبين على النظام السابق، ليس أكثر من تفصيل من تفاصيل تموجات quot;الثورةquot; ومخاضات الميلاد لن تلبث - تقول ألسنة quot;الثورةquot; واثقة - أن تنجلي عن غد quot;ديمقراطيquot; ستنعم فيه ليبيا ويرفل فيه شعبها .


باختصار، يبشرنا هذا العقل الفوضوي بمستقبل يتخلق من الموت والدماء والدمار والفوضى بدعوى أن الثورة هكذا كانت - دائماً - في التاريخ الإنساني، وأننا لسنا بدعاً منها، وأن ما علينا إلا أن نصبر قليلاً، وننتظر زوال هذه العجاجة، لنعرف كيف تولد الديمقراطية من الحرب الأهلية . وإن نحن سألنا هؤلاء المبشرة براهينهم، سحبوا من درج معارفهم مثالين يفقن بهما أعيننا - نحن الشكاك - هما: الثورة الفرنسية والثورة الروسية البلشفية، فالثورتان، في حسبانهم، قطعتا شوطاً طويلاً من مخاضات الصراع والحروب الداخلية قبل أن يستقر لهما الأمر . عادت الملكية، بعد العهد الجاكوبيني إلى فرنسا ثم أسقطت، ودخلت البلاد العهد الجاكوبيني، إلى فرنسا ثم أسقطت، ودخلت البلاد طوراً مديداً من النزاعات الحادة، ومن المد والجزر، قبل أن تستقر بعد ثورة العام ،1848 أي بعد قرابة ستين عاماً على الثورة الفرنسية (في 1789) . واضطر البلاشفة إلى خوض تجربة الحرب الأهلية لثلاث
سنوات، والصدام مع حلفائهم (quot;الاشتراكيين الثوريينquot;)، قبل أن ينتزعوا السلطة نهائياً لمصلحتهم ولمصلحة السوفييتات (بعد أن تحولوا فيها من أقلية صغيرة إلى أغلبية كاسحة) .
لا نختلف في أن ذلك جرى، فعلاً، في الثورتين الفرنسية والروسية، مثلما جرى في الثورة الصينية بين quot;الحزب الشيوعيquot; وماوتسي تونغ وquot;الجبهة الوطنيةquot; وشان كاي شيك . ولعله جرى في الثورة الإيرانية بين طبقة رجال الدين الخمينيين و(بين) quot;الجبهة الوطنيةquot; وquot;حزب تودةquot; وquot;مجاهدي خلقquot; . إنما الخلاف على مسألة محددة هي أن هذا الذي جرى ليس قانوناً كونياً للثورات يصدق على المجتمعات والبلدان كافة، وإنما تفسره اجتماعيات وسياسات وأوضاع تاريخية خاصة بتلك البلدان التي شهدت ثورات على ذلك النحو من العنف والدموية، بحيث لا تشبه غيرها من أوضاع البلدان الأخرى . وآي ذلك أن ثورات عدة حصلت في العالم، وفي الأربعين عاماً الأخيرة، وغيرت وجهه ومعطياته السياسية، حصلت بشكل سلمي، وبعضها لم ترق فيه قطرة دم واحدة، مثلما جرى فيها نقل السلطة من نخبة إلى نخبة، من نظام إلى معارضة، بشكل ديمقراطي ومن طريق التسوية والتوافق . ذلك عين ما حصل في إسبانيا، بعد رحيل الجنرال فرانكو، وما حصل في بولونيا، وألمانيا الشرقية، وهنغاريا، وبلغاريا، وتشيكوسلوفاكيا، والشيلي، والبرازيل، والأرجنتين، والبيرو، والأوروغواي، وجنوب إفريقيا . . إلخ .


في هذه البلدان، وسواها، حصلت ثورة ديمقراطية حضارية وسلمية لم تمر بتجربة العنف والحرب الأهلية . لكن quot;منظريquot; quot;ثورات الربيع العربيquot; يجهلونها . . أو يتعمدون نسيانها