سعود كابلي


كانت العرقية السلافية والمسيحية الأرثوذكسية نواة هوية الإمبراطورية الروسية، ومع الثورة البلشفية صعدت الشيوعية لتشكل الهوية والقومية الجامعة في الاتحاد السوفييتي، ومنذ سقوطه عانت روسيا من حالة فراغ في القيم السياسية

استكمالا لمقال الأسبوع الماضي حول العوامل العامة المؤثرة في صياغة السياسة الخارجية الروسية، يجدر التوقف عند أحد هذه العوامل وهي أزمة الهوية التي تعاني منها روسيا، وهي أزمة لها جذر جغرافي وسكاني من جهة وجذر تاريخي يتعلق بوضع روسيا الدولي منذ سقوط الاتحاد السوفييتي من جهة أخرى.


تشكل مساحة روسيا الهائلة والبالغة 17 مليون كيلومتر مربع أحد مصادر قوتها، وكذلك أحد مصادر معضلاتها (للمقارنة: تبلغ مساحة العالم العربي من الخليج للمحيط حوالي 14 مليون كيلومتر مربع)، وفي حين تمثل سيبيريا (الجزء الآسيوي من روسيا) أكثر من 70% من مساحتها، فإن الجزء الأوروبي من روسيا يضم أكثر من 70% من عدد السكان الروس، وبالتالي فرضت مساحة روسيا وخريطة تمركز ثقلها السكاني سؤالا دائما حول هوية روسيا وإذا ما كانت دولة آسيوية أم أوروبية؟ وينتج عن هذا الأمر تجاذب دائم لسياسة روسيا الخارجية بين الشرق والغرب. فمن جهة ترى روسيا الشرق مفتاح بقائها سواء على الصعيد الأمني المتعلق بحدودها أو علاقاتها الاقتصادية (بالأخص الصين ووسط آسيا) ومن جهة أخرى ترى الغرب نقطة تهديد مركز ثقلها السكاني، وأيضا امتدادا طبيعيا للعرقية السلافية المنتشرة من غرب روسيا إلى مناطق البلقان جنوب شرق أوروبا.
هذه النقطة تحديدا تساهم في بعد مهم لأزمة الهوية الروسية، حيث إنه وبالرغم من كون روسيا دولة فديرالية شاسعة تضم العديد من الولايات ذوات الحكم الذاتي إلا أن النخبة السياسية والاقتصادية ظلت محصورة في العرقية السلافية التابعة للكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، وهو الأمر الذي خلق خطوط انقسام اثنية ودينية منذ سقوط الاتحاد السوفييتي مع عرقيات مختلفة كالتتارية في سيبيريا أو القوقازية جنوب روسيا، ومع المسلمين، حيث يعد الإسلام ثاني أكبر ديانة في روسيا (7-14% من عدد السكان بحسب التقديرات المختلفة)، وتعد منطقة شمال القوقاز الاستراتيجية منطقة التوتر الرئيسية في روسيا، حيث تنشأ الحركات الإسلامية المطالبة بالانفصال كما في الشيشان وداغستان وإنغوشيا.


ورغم أن المسلمين الروس يشكلون أقلية (حوالي 25 مليونا) إلا أنهم أيضا يشكلون مصدر تهديد للهوية السلافية الأرثوذكسية الرئيسية، ففي حين يبلغ معدل الخصوبة العام في روسيا حوالي 1.2 طفل لكل امرأة، يبلغ هذا المعدل بين التتار المسلمين (ثاني أكبر عرقية في روسيا) بحسب بعض التقديرات حوالي 6 أطفال لكل امراة على سبيل المثال، وفي المعدل العام ارتفعت نسبة المسلمين في روسيا منذ عام 1989 حوالي 40%، هذا الأمر لا يعني فقط أن المسلمين في روسيا قد يتجاوز عددهم السلافيين خلال 30 عاما، (تشير التقديرات أن المسلمين سيشكلون خمس سكان روسيا بحلول 2020) ولكنه يعني أيضا ndash; وهذا الأهم ndash; أن المسلمين سيشكلون خلال السنوات القادمة نسبة الأغلبية ضمن الشباب المجند في الجيش الروسي.
تاريخيا كانت العرقية السلافية والمسيحية الأرثوذكسية نواة هوية الإمبراطورية الروسية، ومع الثورة البلشفية صعدت الشيوعية لتشكل الهوية والقومية الجامعة للعرقيات والديانات المختلفة في الاتحاد السوفييتي، ومنذ سقوط الاتحاد السوفييتي عانت روسيا من حالة فراغ في القيم السياسية (vacuum of values)، وفي حين كانت الهويات القديمة تشكل خط دفاع سياسي أمام أي تهديد أو تحدٍ خارجي، فإن دولة روسيا الحديثة وجدت نفسها بعض سقوط الاتحاد السوفييتي بلا منظومة قيم خاصة بها (system of values)، يمكن أن تشكل لها هويتها السياسية الفريدة مقابل الغرب أو الشرق، ولذلك فإن السؤال المؤرق في روسيا هو: ما هي في القومية الروسية الحديثة بالضبط؟ وعن ماذا تعبر؟
الدور الذي تلعبه أزمة الهوية التي تعاني منها روسيا منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، يبرز بشكل واضح في تقلبات سياستها الخارجية منذ عام 1990، فمع سقوط الاتحاد السوفييتي برزت فكرة أن روسيا دولة غربية بالأساس تم اختطافها بالفكر الشيوعي، وبالتالي يجب على روسيا أن تتطور وفق النموذج الغربي، وعبر عن هذا التوجه الرئيس بوريس يلتسن، ومجموعة النخبة الملتفة حوله، ثم في منتصف التسعينات برزت نخبة مضادة رأت أن روسيا يجب أن تظل على صورتها كقوة عظمى دولية مستقلة وإن لم تعاد الغرب وقاد هذا التوجه رئيس الاستخبارات ووزير الخارجية السابق يفغيني بريماكوف، والذي قام خلال فترته بإعادة الدور الروسي التاريخي في شرق أوروبا ووسط آسيا. ومع مجيء الرئيس بوتين، في بداية الألفية تحولت روسيا نحو الانفتاح على الغرب رويدا ثم ما لبث هذا الأمر أن انقلب، بدءا مع الحرب الأميركية على العراق والتي رأتها روسيا تعبيرا عن الهيمنة الأميركية العالمية المنفردة، ومع ارتفاع أسعار النفط منتصف العقد الأول من الألفية زادت ثقة روسيا بنفسها وتم توكيد انفصال هويتها السياسية عن الهوية الغربية (شهدت تلك الفترة تحول روسيا من دولة مدينة بـ148 مليار دولار بداية الألفية إلى صاحبة فائض 500 مليار دولار بنهاية الألفية)، وصولا إلى الحرب الروسية على جورجيا عام 2008، والتي مثلت أبلغ حالات الانفصال عن الغرب وتوكيد الروس لهويتهم السياسية المنفردة. ثم مع مجيء الرئيس ديمتري ميدفيدف، والأزمة المالية العالمية عادت روسيا لإبراز هويتها الغربية وخاصة من خلال برنامج التحديث (modernization program)، الذي أطلقه 2009 ومحاولاته لتحسين العلاقة مع الدول الغربية لاحقا. ومع عودة الرئيس بوتين في 2012 وما رافق ذلك من مظاهرات تزامنت مع الربيع العربي عادت روسيا للانكماش حول مفهوم هويتها الوطنية السياسية المتفردة عن الهوية الغربية.


في 2008 تحدث وزير الخارجية سيرجي لافروف، عن كون المنافسة العالمية أصبح لها quot;بعد حضاريquot; يتعلق بمنظومة القيم التي تطرحها كل دولة، وفي 2012 تحدث الرئيس بوتين في خطابه أمام البرلمان الروسي (الدوما) عن quot;تحدٍ أخلاقيquot; يتمثل في quot;المحافظة على الأمةquot; الروسية وإعادة إنتاج نفسها. وكما ذكر محمد السيد سليم، في مجلة السياسة الدولية: ورثت روسيا التركة الدولية للاتحاد السوفييتي بما في ذلك مقعده في مجلس الأمن وسفاراته في الخارج وترسانته النووية، ومن ثم جاءت معضلة روسيا في صياغة مركز دولي يتفق مع مقدرتها العسكرية ويعترف بضعف اقتصادها أمام الغرب وهزيمتها في الحرب الباردة.
ومع صعود جيل جديد من الشباب، حيث يصبح 50% من سكان روسيا بحلول عام 2030 مواليد ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ومواليد فترة الفراغ في الهوية، ومع زيادة نسبة المسلمين في روسيا وما يشكله هذا الأمر من انقلاب ديموغرافي، ومع عدم حسم فكرة الهوية الروسية المتجاذبة بين الشرق والغرب، يمكن فهم الأسباب التي تدفع روسيا لاتخاذ نهج معين في سياستها الخارجية كمعارضتها الدائمة للسياسة الغربية أو رفضها للربيع العربي، حيث يمثل هذا الأمر وسيلة لتوحيد الصف الداخلي ومنح روسيا هوية سياسية متفردة، فروسيا هنا من خلال سياستها الخارجية تمنح نفسها الهوية السياسية التي تفتقدها.