بكر عويضة

الثامنة بتوقيت غرينتش مساء أول من أمس (الثلاثاء) خطفت دبي أنظار العالم خمس دقائق في عرض جميل لائق بدخول عام ميلادي جديد (بالتوقيت المحلي)، لكنه في الآن نفسه يليق بقصة تألق عربية غير عادية، يحق لإمارة دبي أن تحمل اسمها، ولدولة الإمارات العربية المتحدة أن تفاخر بها، وجدير بكل معنى بتحقيق حالة نهوض عربية، على امتداد العالم العربي كله، أن يضعها موضع درس علمي تحتاجه مناطق عربية عدة، وتستحقه دولة فتية احتفلت مطلع الشهر الماضي بعيدها الوطني الثاني والأربعين، وجديرة به إمارة بدأت بلا بنى تحتية، وبدخل متواضع، لتغدو بالمثابرة والتخطيط علامة فارقة على خارطة العالم، ليس فقط تجاريا، وإنما أيضا في سياق تنمية التواصل الحضاري بين شعوب القرية الكونية، وذلك واحد من الأبعاد المهمة للفوز باستضافة laquo;إكسبو 2020raquo;، أحد أهم المعارض الدولية.

باهرا بدا مشهد الألعاب النارية المنطلقة من برج خليفة، المبنى الأطول ارتفاعا في العالم، لكن الأهم من جمال تلك الدقائق الأخاذة هو التأمل في كيفية تحقيق دبي، ودولة الإمارات عموما، مستوى من النجاح المشهود له عالميا خلال مشوار ليس بالطويل إذا ما قيس بأعمار الشعوب، وفي منطقة من العالم مشهود لها بفقدان الاستقرار طوال الستين عاما الماضية.

سهل أن يقال ما مضمونه: فتش عن المال، هناك تجد الجواب. لكن ذلك قول فيه تبسيط لعله نتيجة جهل وتكاسل في البحث، أو أنه - ببساطة - يتعمد الاستخفاف والتقليل من شأن تجربة نجاح عربية وسط حالات فشل ذريع انتهت إليها دول عربية كانت في زمن مضى أكثر ثراء من دولة الإمارات وأطول تجربة، لكن الفارق الكبير هو أن تلك الدول شتتت جهودها، وبددت إمكانات شعوبها، في معارك داخلية وخارجية لم تكن مضطرة إليها، فأضاعت حتى ما أمكنها إنجازه خلال فترات التقاط أنفاس بين معركة وأخرى.

هل غريب - إذن - أن يشهد العالم مع دبي احتفالها الجميل بإطلالة السنة الجديدة، بينما مناطق عربية عدة تشد اهتمام أغلب عواصم العالم نتيجة ما تشهده من ويلات حروب السنين الثلاث الأخيرة ومآسيها؟

كلا، ليس في الأمر أي غرابة، النجاح يجب أن يحتفى به، مثلما أن من الواجب أن يهب العالم للوقوف إلى جانب ضحايا آلام الحروب الدائرة في أي مكان، وما يعنينا مباشرة منها هو ما يدور في مناطق عدة من العالم العربي. لكن يبقى السؤال: إلى متى ستظل رحى الحروب تطحن مجتمعات دول عربية؟ ولئن بدا مفهوما خلال النصف الثاني من القرن الماضي أن ثمة دوافع وطنية لتلك الحروب، فكيف يمكن فهم مبرر حروب بغض مناطقي وكراهية طائفية تشتعل في عدد من الدول العربية ويزداد أوار سعيرها يوما بعد آخر؟ وهل ثمة أمل أن يقل العام الجديد دموية عن الراحل؟

رغم أهمية القول بإيجابية التفكير، وتقديم التفاؤل على التشاؤم، فإنه يبقى من المحزن أن أجيب بالنفي، كلا ليست هناك شواهد أن الآتي على مناطق حروب ما بعد laquo;الربيع العربيraquo; أقل فظاعة مما سبقه، بل الأرجح أن تضيف نهاية عام 2014 سنة دموية أخرى إلى ما سبقها وسيليها من سنوات دمار وشتات عربية ليس واضحا، على وجه التحديد، إلى أين منتهاها.

قبل ثلاث سنين، دخل العالم العربي، عبر بوابة تونس، دوامة من الواضح، حتى الآن، أنه لن يخرج منها كما دخلها. لحظة تمكن اليأس من عقل المواطن محمد البوعزيزي، المغلوب على أمره في مواجهة توفير لقمة العيش لأسرته، فأشعل نهار الجمعة 17 ديسمبر (كانون الأول) 2010 نار غضب أكلت معظم بدنه، وقضى في الرابع من يناير (كانون الثاني) 2011. كان هناك من ينتظر اللحظة المواتية لإشعال نيران ستأكل من أبدان أنظمة سرعان ما تهاوت على نحو أدهش في سرعته حتى المطالبين بسقوطها.

كلا، لست ميالا لوجهة نظر تحمل كل ما جرى، بكل دقائق تفاصيله، من تونس إلى مصر واليمن مرورا بليبيا ووصولا إلى سوريا، لمؤامرة خطط لها وينفذها جهاز خفي يدير هذا الجزء من العالم. لكن ذلك لا ينفي وجود من ينتظر لحظة مواتية في أي منطقة وليس في الشرق الأوسط وحده، يعرف أنه إذا أحسن توظيفها فإن احتمال استفادته وارد، مثلما أن إمكانية الخسارة قائمة في حال أساء الحسابات. والطرف المنتظر ليس واحدا، بل مجموعة أطراف، بينها بالطبع قوى محلية لها تطلعاتها الوطنية الطامحة للتغيير، إنما الأطراف الخارجية أكبر من تلك المحلية وأقوى، بالتأكيد، وهذه قد تلتقي مصالحها في مكان وزمان محددين، لكنها تتقاطع في مكان آخر وتوقيت مختلف، وبين التلاقي والتقاطع يحدث مد وجزر في المواقف يترتب عليهما إطالة صراع أو سرعة حسم آخر، فيما الشعوب التي تجري الصراعات في أراضيها تدفع باهظ الثمن.

لكن الفظاعات والمآسي لا توقف عجلة الحياة، حتى حيث تستعر نيران الحروب على أشدها. ورغم ارتفاع منسوب التشاؤم في الكوب، يبقى مدعاة للتفاؤل أن ترقب تلك البهجة في أعين الناس وهي تتابع احتفال دبي الجميل بمطلع العام الجديد. يوما ما، تفرح بمثل تلك البهجة مدن وقرى عربية عدة تئن بجراح حروب دامية منذ سنين طالت، وحتى الآن.