عمّار علي حسن

قبل أيام حلت الذكرى الثالثة لثورة 25 يناير المصرية، وسط تغيرات فارقة، إذ تتعرض البلاد لموجة جديدة من الإرهاب انتقاماً من إسقاط الشعب لحكم جماعة laquo;الإخوانraquo; عبر ثورة شعبية أخرى في 30 يونيو من العام الماضي، في حين تم وضع دستور جديد، وانفتح الباب أمام انتخابات رئاسية تبدو حظوظ القائد العام للقوات المسلحة المشير عبد الفتاح السيسي هي الأوفر فيها.

وهذه التطورات تطرح تساؤلات مهمة عن المكتسبات التي حققتها الثورة، بقدر ما تطرح هواجس جديدة عن المستقبل.

وبالطبع فإن الثورة لم تحقق كل أهدافها، لكنها أنجزت الكثير حتى هذه اللحظة، وستمضي في طريقها، بمرور الأيام، بفضل المخلصين والوطنيين من الثوار والنابهين من الناس، حتى تصل إلى ما تصبو إليه، كاملاً غير منقوص.

ويمكنني أن أوجز هذه الإنجازات في النقاط التالية:

1 - انكشاف laquo;الإخوانraquo;، فهم استعملوا الثورة وسيلة لاقتناص السلطة، ليصعدوا إلى خشبة المسرح فيرى الناس عوراتهم، بعد أن كان البعض يتعاطفون معهم أيام مبارك، ظانين أنهم ضحايا أو مناضلون أو أصحاب حلم ووعد وأمل ويمتلكون حلاً للمشكلات التي يعاني منها الشعب!

ولو لم تقم الثورة لظل laquo;الإخوانraquo; يتمددون في صمت ومكر حتى يمسكوا بمزيد من ركائز القوة المادية والبشرية، وحين يحوزون السلطة بعدها يكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، إزاحتهم عنها سنين طويلة، سواء بصندوق الانتخابات، الذي كانوا سيزوّرونه بعد أن تعلموا كل دروس الحزب الوطني الفاسد في هذا وزادوا عليها الكثير، أو من خلال احتجاج، كان أنصارهم الكثر وقتها سيتصدون له بقسوة.

2 - تهافت المسار السلفي: فقبل الثورة كان بعض المشايخ المحسوبين على هذا المسار لهم في نفوس الناس هيبة ومكانة، فكلامهم مصدق، ووعظهم مستساغ، وطلبهم مستجاب، وكان هؤلاء يقومون حثيثاً بتغيير طبيعة التدين المصري الوسطي، ويغتالون في بطء المؤسسات الدينية التي بناها المصريون في قرون طويلة، وعلى رأسها الأزهر، ويغيرون وعي الناس حيال الكثير من أمور الحياة، ولو لم تقم الثورة لظل هؤلاء يتمددون بلا توقف، حتى يصبح أتباعهم بعشرات الملايين، ووقتها سيصلون إلى السلطة، بتحالف مع laquo;الإخوانraquo; أو من دونهم، ولن يستطيع أحد إزاحتهم للأسباب السابقة ذاتها.

وحتى لو لم يطلبوا الحكم أو يسعوا إليه فإنهم سيحرثون الأرض أمام laquo;إخوانيraquo; أو متطرف ليقتنص العرش، وإن لم يفعلوا ذلك، فعلى الأقل سيغيرون الكثير من قيم المصريين واتجاهاتهم ومعارفهم، وهذا يشكل خطراً داهماً على المجتمع، وعلى طبقاته الحضارية والثقافية التي تراكمت عبر آلاف السنين.

3 - حققت الثورة ما نسميه laquo;الاقتدار السياسيraquo; الذي يعني ثقة الناس في أنفسهم، وهو شرط أساسي لأي حكم رشيد أو ديمقراطي، فالمصريون كسروا حاجز الخوف وأسقطوا الصمت، وصارت لهم هيبة في نفوس أهل الحكم، ولم يعد بوسع من يجلس على الكرسي الكبير أن يسخر منهم أو يستهتر بهم، ما يشكل ضغطاً متواصلاً عليه كي يعدل أو يستجيب لما يريده الناس.

وإن لم يفعل كان بوسعهم أن يخرجوا ويسقطوه مثلما جرى في ثورة يونيو العظيمة.

وقد غيرت الثورة حتى بعض من كانوا ينتمون إلى الحزب الحاكم قبلها، ممن تعلموا الدرس، بعد أن كانوا يعتقدون أن سبيل التغيير الوحيد هو الانخراط في صفوف السلطة، أو نفاقها، ليتقدموا خطوات نحو المواقع السياسية أو المنافع المالية، وكانوا يتصورون أن الشعب عاجز عن الفعل، وأن الرافضين للحكم مجموعة من المجانين الذين يطلبون المستحيل.

كما غيرت من نفوس الملايين الذين كانوا مستسلمين لكل ما يجري، وهم ما سميناهم laquo;حزب الكنبةraquo; والذين رأيناهم في الشوارع بعشرات الملايين يسحبون laquo;الإخوانraquo; من على العرش.

4 - تعززت المشاركة السياسية بعد الثورة، حيث كان الإحجام عنها آفة مصرية، ومرضاً عضالاً، مما مكن السلطات المتعاقبة من تزوير إرادة الناس، والانفراد بالقرار، وتوظيف إمكانيات الدولة الرمزية والمادية ضد مصالحهم.

فبعد الثورة بدأنا نعرف ظاهرة طوابير الانتخابات الطويلة، وبات المواطن مدركاً أن صوته يمكن أن يغير التاريخ. أما قبل الثورة فكان الشعار السائد: laquo;ستفعل الحكومة ما تريد رضينا أن أبيناraquo;. وقبل الثورة كان أقصى أماني المعارضة أن تتم تنقية الجداول الانتخابية، أو يسمح بالتصويت بالرقم القومي، وهو ما تم بعد الثورة، علاوة على ضمانات عديدة للنزاهة، عبر إشراف القضاء، ووجود لجنة عليا مستقلة لإدارة الانتخابات، ونقل عملية التصويت على الهواء مباشرة في وسائل إعلامية عديدة.

4 - عدلت الثورة الكثير من الأطر السياسية والقانونية الحاكمة، بعد تهذيب صلاحيات الرئيس، وإقرار توازن بين السلطات في الدستور، وتحديد قواعد للتعددية السياسية وتداول السلطة.

وفي هذا خير كبير، إذ إن أغلب الآفات التي أصابت مصر قبل الثورة جاءت من باب تأبد الحاكم في موقعه، فتكونت حوله شلة من المنتفعين الفاسدين، واستمرأ تقديم أهل الثقة على أهل الخبرة، وتوحش الجهاز الأمني، وانحرف عن مهمته، وكبر أصحاب الاحتكارات واتسعت الهوة بين الطبقات.

5 - فضحت الثورة كثيراً من المنافقين والمرجفين، فمع تقلب الأوضاع السياسية تعرى اللاعبون على الحبال، ومن يفضلون مصالحهم على مصالح الوطن، والساعين بقوة إلى حماية ما حازوه من مناصب أو ثروات بغير حق.

هذه أهم مكتسبات الثورة حتى الآن، وهي ليست بالقليلة، وعلى الثوار أن يشعروا بنبض الناس، ويتبنوا قضاياهم، وينظموا أنفسهم لإدارة المجتمع، ويستيقظوا لكل محاولات القوى المضادة للثورة كي تعود بالأمور إلى سابق عهدها، وكلي ثقة في أن حضور الشعب في المشهد سيصحح الأخطاء تباعاً، ويرمم الشروخ بلا توقف، ويدفع عربة التاريخ إلى الأمام، ويجعل أرواح الشهداء لا تذهب سدى، وجراح المصابين لا تنزف بلا جدوى، وأحلام البسطاء في العيش والعدل لا تسقط تحت أقدام المتجبرين والمتكبرين والفاسدين.