رغيد الصلح

تقول أكثر التوقعات إن الحرب مع "داعش" و"القاعدة" سوف تطول، وتدل العديد من المؤشرات على أن هذه التوقعات في محلها . فقوى التطرف الديني تملك من الموارد البشرية والمادية ما يسمح لها بالاستمرار فترة طويلة . بالمقابل فإن دول المنطقة لا تتصرف على نحو يسمح لها بحسم هذا الصراع لمصلحتها . ولم تصل إلى الاستنتاج الضروري القائل إن هذه الحرب، هي في نهاية المطاف، ليست حرباً عالمية ضد الإرهاب، ولكنها أيضاً، وقبل كل شيء، حرب عربية ضد الإرهاب والإرهابيين، وإنها إذا كانت كذلك، فإن الأولوية يجب أن تكون تحريك وتحفيز التكتلات والتحالفات المناسبة لحماية أمن المنطقة من الإرهابيين .


إن هذه التكتلات والبنى المناسبة موجودة أساساً في النظام الإقليمي العربي . فعندما قررت الدول العربية خوض حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام ،1973 عمدت مصر وسوريا إلى تشكيل مجلس أعلى مشترك للتنسيق بين البلدين، واتخذ قرار في إطار الجامعة العربية بتحريك مجلس الدفاع العربي المشترك . وبتحريك المجلس لم يكن المقصود فقط عقد اجتماعاته الدورية الرسمية ولا حتى اتخاذ القرارات الملائمة لسير التحضير للحرب، وانما قبل ذلك وكما جاء في مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي الذي كان على رأس المجلس إجراء اتصالات مكثفة وخارج الاجتماعات الرسمية بين المعنيين بأعمال المجلس ونشاطه . فضلاً عن ذلك فقد أوكل إلى "الأوابك" أيضاً مهمة متابعة مسألة العلاقات النفطية مع الدول الأجنبية وبحث إمكانية استخدام النفط كسلاح في الحرب لتحرير الأراضي العربية من الاحتلال "الإسرائيلي" .


نجحت هذه الإجراءات في توفير حد أدنى، على الأقل، من التنسيق بين الدول العربية، ومن العمل المشترك فيما بينها . واليوم تحتاج مسألة الحرب على الارهاب إلى اعداد وتحضير وإلى وضع استراتيجية عربية شاملة للقضاء على الإرهاب، ولإعادة الحياة السياسية في المنطقة إلى حضن التنافس السلمي بين أصحاب المصالح المشروعة والآراء والمعتقدات الفكرية والسياسية .


باستطاعة الزعماء العرب الإفادة من التجارب السابقة بما فيها تجربة حرب اكتوبر، وتطبيق هذه الاستراتيجية عبر مؤسسات إقليمية متنوعة . فلقد استحدث مؤتمر القمة العربي مجلس الأمن العربي . والمفروض أن المجلس نشأ استجابة لموجبات التضامن العربي في حالات الإخلال بالسلم والأمن العربيين، وتعبيراً وأداة للاستجابة إلى الحاجة إلى "إتخاذ قرارات سريعة وحاسمة لمواجهة هذه الحالات"، كما جاء في الاقتراح الذي تقدمت به مصر لإنشاء المجلس .


ولكن، رغم توفر كافة الأسباب والاعتبارات الداعية إلى تحرك المجلس وإلى اضطلاعه بدور فاعل في التخطيط لخوض المعركة ضد الإرهاب وإلى التحرك في هذا الاطار، فإن المجلس غائب كلياً عن المسرح السياسي العربي . فالمجلس الذي استحدث بغرض التعويض عن تخلف الدول العربية عن اصدار القرارات الحاسمة بهذا الصدد، لم يعقد، أصلاً، اجتماعاً لإصدار مثل هذه القرارات . ومما يزيد الأمر غرابة هو استنكاف المسؤولين عن العمل العربي المشترك عن تقديم أي تفسير أو تبرير لهذا الغياب .


إن هيئة عربية مثل مجلس الأمن أو مثل مجلس الدفاع العربي المشترك، تستطيع أن تبلور أسساً سليمة لمكافحة الإرهاب على النطاقين الوطني والإقليمي . فهذه الهيئة هي الاطار الافضل للتداول بين الدول العربية حول دورها بالذات في الحرب . وضمن هذا الاطار العربي يمكن الاتفاق على ثلاثة أمور مهمة تشكل ركيزة من ركائز التعاون بين الدول العربية في معركتها ضد الإرهاب .


أولاً، أن الأولى بخوض الحرب هي الدول العربية نفسها . فهناك إجماع بين كافة المعنيين بالصراع الذي تشهده المنطقة، أن التدخل الخارجي لن يحسم هذا الصراع . فأقصى ما تعد به الدول الكبرى هو التدخل عبر القصف الجوي . وهناك اجماع أيضاً أن القصف الجوي لن يقضي على الجماعات الارهابية، وان الجيوش البرية هي التي تملك الوصول إلى هذه النتيجة . إذا كان الأمر كذلك، فلا فائدة من انتظار التدخل الخارجي، بل ينبغي الانصراف إلى التنسيق بين الجيوش والقوات العربية من أجل حماية الأمن العربي .


ثانيا، أن الحرب ضد الإرهابيين ليست حرباً عسكرية فحسب وإنما هي حرب سياسية . وتقدم التجارب الأخيرة صورة على صواب هذا التقييم . فعندما يقف البلد العربي نفسه على شفير حرب أهلية بين أطراف الصراع الرئيسية فيه، تنجح "داعش" . هذا ما حدث في العراق إبان حكومة نوري المالكي . فعندما احتلت قوات التنظيم الموصل، كان العراق يقف على شفير حرب اهلية بسبب السياسة الاقصائية والطائفية المغرقة في التعصب التي مارسها المالكي . هكذا انهار الجيش العراقي الذي كان واحدا من أقوى جيوش المنطقة خلال ساعات قصيرة، ولم يتمكن من صد "داعش" .


في لبنان كان الأمر مختلفاً تماماً . فالنخبة السياسية على عمق الصراعات بينها، توصلت إلى اتخاذ مواقف موحدة وإن لم تكن جماعية إلى جانب الجيش اللبناني . من جانبه، تمكن الجيش، بفضل جدارته العسكرية ومناقبيته العالية، من خلق مناخ وطني عابر للطوائف وللعصبيات الفئوية . هذا المناخ ساعد الاطراف اللبنانية الرئيسية على الاحتكام، ولو مؤقتاً، إلى القيم الوطنية بدلاً من الشحن الطائفي والمذهبي في مجابهة الغزو الإرهابي الذي تعرض له لبنان . ولقد مرت هذه التجربة بنجاح، وخرجت منها الأطراف اللبنانية الرئيسية دون خسائر كبيرة .


ثالثاً، إن الدول العربية تحتاج إلى تطبيق سياسة الدفاع الوطني الشامل لا ضد الجماعات الإرهابية فحسب، وإنما أيضاً لغرض حماية الأمن الإقليمي العربي من التوسعية "الإسرائيلية" . ان تطبيق هذه السياسة أتاحت لبلد صغير لا يزيد عدد سكانه على ثلاثة ملايين نسمة تكوين جيش كبير وفاعل يضم 400 ألف جندي، أي جيش يفوق من حيث العدد جيوش دول كبرى مثل اليابان، بريطانيا، فرنسا وإيطاليا! كما جاء في التقريرالسنوي لعام 2010 للمؤسسة الدولية للدراسات الاستراتيجية . إذا طبقت دول المشرق العربي وحدها مثل هذه السياسة فإنها قادرة على إلحاق هزيمة تاريخية ب"إسرائيل" ووضع حد لعدوانها وإرهابها في المنطقة .