محمد الرميحي

يومي الأربعاء والخميس 23 - 24 أبريل (نيسان) الماضي، التأم في المنامة، بدعوة من مركز البحرين للدراسات، مجموعة من المهتمين بمستقبل أمن الخليج. التوقيت والحضور كانا على درجة من الأهمية. كانت الثيمة الأساس هي مدى تعرف دول الخليج على الحالة التي هي فيها، والقاضية باستخدام التفكير العلمي والعقلاني من أجل النأي بالنفس عن التصدع الذي صارت عليه بنية الدولة الوطنية في أكثر من دولة عربية في مرحلة ما بعد الربيع العربي. وصّف المسرح السياسي على أفضل توصيف، كما حددت أيضا وسائل العلاج الممكنة، وكان أفضل ما جاء به اللقاء أنه أضاء كثيرا - ومن شخصيات لا تنقصها الحكمة أو التجربة - المناطق الرمادية للمخاطر المحدقة بأمن الخليج وشعوبه، وهي مناطق لا يريد البعض أن يتحدث حولها أو يقترب منها أو حتى يعترف بها.

كان على رأس المتحدثين في جلسة الافتتاح كل من محمد الصباح وتركي الفيصل (مع حفظ الألقاب). مجمل الحديث استدعى إلى تفكيري مثلا عميقا يستخدمه أهل البحر في الخليج، عندما يصفون صعوبات تواجههم، ولا يجدون لها حلا عاجلا، كانوا يقولون (غزر علينا البحر)! أي إننا نبحر في مياه غير معروفة، وهو الوضع الاستراتيجي الخليجي اليوم. المخاطر واضحة، والحلول من أهل الرأي أيضا موصوفة، ولكن لا يوجد أحد راغب أو قادر على (تعليق الجرس) عمليا؛ فالقرار مؤجل!

محمد الصباح لخص (غزارة البحر) بمثل ذكي ينتمي إلى عالم الحرب العالمية الأولى، عندما اغتيل الأمير النمساوي فرنسيس فرديناند في 28 يونيو (حزيران) 1914 بمدينة سراييفو من قبل مجموعة من الصرب، ولما قررت الحكومة النمساوية وقتها أخذ القتلة بجريرتهم أعلنت الحرب على مملكة صربيا، التجأوا - كونهم أرثوذكس ndash; إلى حامي الكنيسة الأرثوذوكسية وقتها قيصر روسيا التي أعلنت الحرب على الإمبراطورية النمساوية المجرية في اليوم الثاني، ثم تداعت الأحداث لتنتج الحرب العالمية الأولى بكل فظاعتها. والصورة واضحة في توصيف أحد المخاطر التي يمكن أن تصيب الخليج وهو التدخل في الشأن الداخلي الخليجي بسبب ما يرى البعض في الجوار أنه حام لهذه المجموعة أو تلك من المواطنين الخليجيين، عندها انتهى الصباح بالقول: laquo;إننا من المحتم أن ننتقل من المواطنة، التي هي حق كامل لكل مواطن في مساواته في الحقوق والواجبات، إلى الانتماء، وهي درجة أعلى تحتم أن نحل مشكلاتنا بعضنا مع بعض في حدود الوطن دون التطلع إلى آخرين خارج حدوده، لأن مساعدتهم تحمل غرض الهيمنة والتوسع، مهما جملوها بشعارات مغرية!raquo;.

يعود الفيصل في مداخلته إلى تلك الثيمة في سرده المخاطر المحدقة بأمن الخليج، حيث يرى أن المنغص الأول لأمننا في الخليج وفي العالم العربي، هو سياسات القيادة الإيرانية، الهادفة إلى الهيمنة والتدخل في الشؤون الداخلية، رغم أننا (نكنّ كل ود واحترام ومحبة لإخوان لنا يقطنون الجانب الآخر من الخليج - الشعوب الإيرانية)، فإن غموض النوايا الإيرانية في امتلاك القدرة النووية العسكرية من جهة، والتدخل في كل من سوريا واليمن والعراق ولبنان يؤسسان (لعدم الثقة بالقيادة الإيرانية)، حيث تظهر ازدواجية الخطاب مع السياسات المتبعة، فينتج عن ذلك أن (أفعالا تكذب أقوالا)! الفيصل، بجانب إشارته إلى الخطر الأكبر، يقدم وصفة متكاملة للحفاظ على أمن الخليج واستقراره، يبدأها - محقا - بأهمية إصلاح الوضع الداخلي الذي يصفه بأنه يؤسس لـ(انكشاف استراتيجي - غير مسبوق - على المستوى الوطني والإقليمي في أعلى مراحله)، حيث إن المنطقة في (حالة مخاض شديد النزف) ناتجة عن هشاشة الأوضاع في المنطقة العربية التي مردها إلى (خطأ في السياسات التي كانت متبعة في مجالات التنمية كافة)، وأساسها الإخفاق في (إيجاد علاقة سوية بين الحاكم والمحكوم). ويرى الفيصل أن (الشرط الأول للحفاظ على أمن دولنا الوطني هو صيانة وتحسين داخلنا بسياسات تحافظ على علاقة سوية بين قادتنا وشعوبنا)؛ فالأمن الوطني ليس (أمنا عسكريا، بل هو أمن سياسي واقتصادي واجتماعي وحقوقي وثقافي وإعلامي وسياسي داخلي)، وأن (الاعتماد على القوة الصلبة في تثبيت الأمن ليس ضمانة كافية لتحقيقه). أجمل الفيصل هنا توصيف الأزمة التي تواجه الأمن في الخليج بمعناه الشامل، كما وصف الترياق بالقول (صيانة وتحسين داخلنا)، وهو يستطرد هنا ليقول: (إنه بعد ثلاثين عاما من مسيرة مجلس التعاون، فشلنا في ترقية هذا التعاون إلى ما هو أفضل منه)، ونادى بضرورة تفادي أسباب القصور في عمل هذه المنظومة (لنكون مؤهلين وجاهزين بأنفسنا لمواجهة كل الاحتمالات... بما فيها تخاذل الأصدقاء أحيانا...). يقول هنري كيسنجر، الاستراتيجي الأميركي المعروف، في مذكراته: (إن الحاضر وإن كان لا يحل محل الماضي أو يكرره، إلا أنه لا بد أن يحمل وجه الشبه معه، وكذلك الحال مع المستقبل). إن أردنا أن نبسط هذه الفكرة على حال الخليج اليوم، فإن مستقبل الأمن في الخليج لا ينفك عما يحدث في الجوار، وهو جوار مضطرب وفي حالة سيولة، وأيضا مرحلة زمنية قد تطول وتصل تداعياتها إلى آخر منطقة مستقرة في الخريطة العربية، وهي حوض الخليج العربي. إن عدم الاهتمام، أو التقاعس في العمل الجماعي الخليجي لنقله إلى اتحاد يجمع الموارد وينسق السياسات لا يعرض الإقليم للتفكك فقط، ولكن يفتح الباب واسعا أمام التدخلات الإقليمية والدولية التي قد تعصف بمنظومة الخليج كما عرفناها حتى الآن. المؤسف أنه ليس لدى زعمائنا وقت للتفكير، إنهم في عراك دائم مع العاجل والأكثر إلحاحا، أو منشغلون بالمناكفة السياسية، وعندما تستمع إلى محمد الصباح وتركي الفيصل تعرف أن هناك من يفكر خارج الصندوق ويتجاوز بصره الآني كي يتطلع إلى الأفق الأبعد، ويتعرف على نقاط الاستدلال الكبرى القادمة، ويرى أن لا سلام في الإقليم دون توازن، كما أن لا استقرار في الإقليم دون عدالة، ولا تواجه الكتلة الصماء الكبيرة بنزاع داخلي عبثي.

هكذا، تم قرع جرس الإنذار عاليا وبصوت مسموع في المنامة من عدد من المهتمين بأمن الخليج ويؤرقهم أمن الوطن ويعرفون على وجه اليقين المخاطر المحيطة باستقراره.

آخر الكلام:

تنتقل المنطقة العربية من (الزمن الثوري) إلى (الزمن الفوضوي)، مما يجعل انكشاف الأمن الإقليمي الخليجي حقيقة واقعة وليست نظرية فقط.