مالك التريكي

كانت الأديبة الإفريقية الجنوبية نادين غورديمر الفائزة بجائزة نوبل للآداب عام 1991، والتي رحلت عن الدنيا هذا الأسبوع عن سن تناهز التسعين، من الأصوات العالمية التي لا تتهيب انتقاد إسرائيل وسياساتها. ولكنها لم توافق أبدا على اعتبار إسرائيل دولة تفرقة عنصرية مثل دولة الأبارتهايد التي ناضلت ضدها بتصميم وثبات منذ الصغر. فقد كانت غورديمر عضوا في المؤتمر الوطني الإفريقي، وأيدت قرار الحزب خوض الكفاح المسلح وحررت لمانديلا نص المرافعة التي ألقاها أثناء محاكمته مع رفاقه عام 1962. كما صارت، بعد زوال حكم الأقلية البيضاء، من أنفذ الأصوات تنديدا بانحرافات ساسة المؤتمر الوطني الحاكم. كان فيها بالأم تيريزا شبه: سيدة نحيفة رقيقة لا وطأة لها على أرض البشر – «ذؤابة امرأة» كما يقول الفرنسيون – ولكن لها من العزم ما تنوء به الجبال.


رغم انتقاد غورديمر للسياسات الإسرائيلية، فإنها رفضت مقاطعة مهرجان الكتّاب الذي نظم في القدس المحتلة في أيار/مايو 2008 بمناسبة الذكرى الستين لإنشاء إسرائيل. ولهذا التضارب بين موقف المثقفة اليهودية الليبرالية من الأبارتهايد في بلادها وموقفها من الأبارتهايد في فلسطين تفسيران على الأقل. الأول مباشر. وهو أن غورديمر تعتبر أنه «لا يمكن للبيض أن يدّعوا أي حق في أي شبر من أرض إفريقيا». أما اليهود، فإن لهم، في اعتقادها، حقا تاريخيا في «أرض إسرائيل». «من هنا فلا وجه للمقارنة بين الوضعين، وليست إسرائيل بدولة أبارتهايد». هذا رغم أن عددا من رفاق الكفاح ضد النظام العنصري في جنوب إفريقيا قد وصفوا إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري وأن أشهرهم، دزموند توتو، أعلن أن الأوضاع في فلسطين المحتلة أسوأ مما كانت عليه الأوضاع في نظام الأبارتهايد الإفريقي الجنوبي.


أما التفسير الثاني فلعل من الممكن التماسه في الصورة الأدبية التي رسمتها غورديمر لصديقها ادوارد سعيد. صحيح أن الأكاديمي الفلسطيني حيدر عيد وجه آنذاك رسالة مفتوحة إلى غورديمر يطالبها بـ»مناهضة أبارتهايد إسرائيل»، ويقول لها إنه لو امتد العمر بسعيد، الذي «منحها صداقته»، لاستنكر موقفها بالغ الاستنكار. ولكن من الصعب الجزم بذلك. فقد كانت الصداقة بين سعيد وغورديمر عميقة، مثلما تبين الرسالة التي بعثتها زوجته السيدة مريم سعيد إلى نيويورك تايمز عام 2007. كانت صداقة إعجاب متبادل بكلا المنجزين الفكري والأدبي، اللذين تتقاطع فيهما مشاغلهما المحورية (المنفى، والهوية، واللا-انتماء)، مع تقدير للشجاعة التي كان يتحلى بها كل منهما أخلاقيا وسياسيا في وجه مختلف أنواع السلطة والعنف المؤسسي.


عام 2007 نشرت غورديمر مجموعة قصص قصيرة تصور إحداها، بعنوان «الحلم بالأموات»، لقاء يجمعها بثلاثة من أصدقائها الراحلين: الصحافي البريطاني أنثوني سامبسون، والكاتبة والمخرجة الأمريكية سوزان سونتاغ، وادوارد سعيد. يتم اللقاء في مطعم صيني، حيث يكون سعيد أول الواصلين، تدل عليه «أناقته المعهودة» و»وسامته الجلية في صوره الباقية». تصر سونتاغ على مناقشة «الوضع الفلسطيني-الإسرائيلي «فتتركز الأضواء «طبيعيا» على سعيد. ولكن غورديمر تنبه أن «ادوارد ليس فلسطينيا فحسب، بل إنه أيضا، في أخلاقياته ككائن إنساني، يهودي. نعرف هذا من كتاباته، وكشفه ما في داخلنا من استشراق ومن اختراع للآخر على نحو لا يزال مستمرا حتى بعد زاول الاستعمار التقليدي».


غير أن سعيد يبدو معرضا تمام الإعراض عن هذا النقاش. تعلق غورديمر أن «البعد الذي يقابل به سعيد إصرار سونتاغ على العودة إلى النقاش المحتدم حول الشرعيات المتعارضة بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعد محير». لهذا تلح عليه أن «يقول شيئا يفسر لي نأيه بنفسه عن الخوض مع سوزان في تصوراتها عن التطورات (…) في الشرق الأوسط». فماذا يكون الجواب؟ «لقد أنهى للتو تلحين كونسرتو للبيانو»! وتضيف غورديمر شارحة: «ذات مرة لفت ادوارد نظري، بمودة، قائلا: لك الكتابة ولكن لي الكتابة والموسيقى». ثم تبدي ملاحظة ثاقبة حول إشكالية التحرر الفردي من إرغامات السياق الوجودي، فتقول إن فلسطينية سعيد قد كانت الحافز المحوري في حياته، ولكن ليس بمحض الاختيار بل بحكم الأمر الواقع. ذلك أن «ادوارد ملحن. هذا ما كان دائما وهذا ما كان ينبغي أن يكون».


كان ادوارد سعيد أول الواصلين. ومع ذلك، فإنه يعتذر بشىء من الدعابة: «لا أدري كيف تمكنت من الوصول متأخرا، إن هذا لضرب من الفن».