جاسر الجاسر

يبدو كتاب «الاعتبار» لأسامة بن منقذ كأنه يصف المشهد العربي في علاقته مع إسرائيل اليوم، وبالإمكان قراءته باعتباره شهادة حية بعد تغيير أزمانه ومسميات إماراته وأنواع أسلحته، أما العلاقة بتعقيداتها وتناقضاتها فهي ذاتها.

&

حين سقطت القدس في يد الصليبيين عام 1099 كان عمر أسامة أربعة أعوام، وحين استعادها صلاح الدين عام 1187 كان بقي من أجل أسامة عام واحد، وما بينهما الصورة المرعبة لتغلب المنفعة الشخصية والأنانية والتناحر على القيادات العربية - وقتها - حتى أنها رضيت بمحاربة بعضها بعضاً بالتحالف مع الفرنجة والتعاون المباشر معهم، ولعل أشهر الروايات وأكثرها مرارة، ما قام به وزير الدولة الفاطمية الأفضل بن بدر الجمالي حين عرض على الفرنجة الذين يحاصرون أنطاكية أن يتقاسم الشام معهم.

&

كانت الإمارات العربية مشتتة، وتقوم عليها مجموعات من المتخاذلين والموالين والمرتزقة وقلة من العرب، ولا يربط بينها سوى حال من البغضاء والدسائس والمؤامرات. وكان الفرنجة استقروا بما يكفي لتنتقل إليهم حال البغضاء والصراعات الداخلية المستترة - سابقاً - تحت غطاء الجهاد المقدس.

&

يرصد أسامة مشاهد فانتازية عن طبيعة العلاقات العربية - الفرنجية، وما فيها من تبادل تجاري وتداخل معيشي وتناقل المعلومات، والأهم التكتل المشترك لمحاربة خصم عربي - إفرنجي آخر، ما يعني تحولاً كلياً في معنى القيم، وتذويباً للدين في سبيل تحقيق ربح أو الاحتفاظ بسلطة قلقة. المفارقة أن كل حرب تنشأ في ظل هذه التحالفات يكون خطابها الجهاد في سبيل الله، وطرد الصليبيين واستعادة القدس، ومع أنها لا تستعيد شبراً واحداً في كل حرب، إنما تحقق مكاسب للزعيمين المتحالفين. يبقى الجمهور العاطفي مستثاراً - في كل مرة - لإعادة الكرة طلباً لاستعادة القدس وإن أخلفت البوصلة اتجاهها.

&

المشهد اليوم هو ذاته، فالشراكات قائمة، والمصالح الضيقة لها الأولوية، والحسابات دقيقة في سياقات الربح والخسارة، والنوايا لا تتطابق مع المظاهر. وعندما تنشأ حرب فهي ليست بين عرب وإسرائيليين، بل بين طرفين متضامنين يروجان لخطاب جماهيري حاشد باعتباره أحد أدوات المعركة.

&

حين تاجر جيل أسامة بـ «الجهاد» كان يقرأ الرغبة الشعبية، ويتلاعب بعاطفتها من أجل رفع حظوظه ومكاسبه، وتقوية موقفه التفاوضي. وإذا تردد مصطلح «الصهيونية» اليوم فلا يتوهم أحد أنه محدد الدلالة، بل هو لعبة سحرية تتغير ملامحها كل لحظة، خصوصاً حين يكون لباسه عربياً، لأن المقصد استثمار المضمون الشعوري لهذا المصطلح، وادعاء حال الجهاد النظرية استقطاباً للشارع واستثارة لعاطفته. حين يطلق أردوغان خطابات غاضبة من أجل غزة مرتدياً «الكوفية» الفلسطينية ينسى الشارع العاطفي أنه يحتفظ بإسرائيل شريكاً عميقاً في التجارة والحرب، وأنها شريكه القريب وبوابته الحتمية إلى جنة الاتحاد الأوروبي. حين يخرج حسن نصرالله بعد نحو 20 يوماً من العدوان زاعماً أن النصر قادم تهتف الحناجر لـ «سيد المقاومة»، علماً بأن كوادره - في اللحظة ذاتها - تقتل إخوانهم السوريين نصرة لنظام مجرم، كما أنه لم يطلق صاروخاً يتيماً تجاه إسرائيل نصرة لـ «محور المقاومة»، لأن مفهومه لـ «القدس» يختلف عن جميع المسلمين.

&

طهران ربة اليوم العالمي للقدس منشغلة بحساباتها في سورية والعراق والملف النووي، وتنتظر ما يمكن أن تكسب من الوضع الراهن، ولن يضيرها تكرار كلمات نارية تستحضرها كل عام فيستقبلها الجمهور بالحرارة نفسها وكأنه يعاني من ألزهايمر.

&

الجميع مشغولون بمصالحهم وشبكات علاقاتهم المعقدة، وبعضهم يبحث عن حضور عابر وقوة متخلية، بينما الدم الفلسطيني هو الورقة التي يظنها كل طرف ورقته الرابحة!

&

على الأقل العرب، ومعهم تركيا وإيران - اللتان لم تكونا في النسخة الأصلية لكتاب الاعتبار -، لم يدخلوا مواجهات ميدانية، لكنهم يتسابقون في صناعة خطاب غزلي كل غايته استحلاب الشارع، كأننا لم نغادر عام 1967 لحظة، ولا نستذكر السلوك الاحتفالي لهذا الشارع بعدوان صدام على الكويت، ظناً أن الكويت الطريق الوحيد لتحرير القدس.
&