محمد المزيني

اليوم حُق لنا أن نعضّ أصابع الندم على كل ما قدّمناه من أنواع المساعدات لـ«الإخوان المسلمون» بعدما اكتشفنا الخديعة الكبرى التي انطلت علينا، حتى تمكنوا من برمجة شبابنا بكفاءة عالية وفق غاياتهم وأهدافهم، ونجحوا أيما نجاح في غضون أعوام محسوبة لتجهيز فصائل القتال ودفعهم إلى أفغانستان! ولا أدري إن كان البعض يدرك أهمية القتال في أفغانستان بالنسبة لهم، فتاريخ «الإخوان» مليء بالصراعات، من ألدها صراعهم مع الشيوعيين على رغم محاولات متكررة للتقارب معهم في سبيل إسقاط حكومة عبدالناصر، إذ جرى أول اتصال في تموز (يوليو) 1954 بين مندوب عن الحزب الشيوعي وسيد قطب، رئيس تحرير جريدة «الإخوان المسلمون»، إلا أن التاريخ لم يستطع محو ما علق في ذاكرتهم من سجون ومعتقلات عبدالناصر الذي أصبح موالياً للاتحاد السوفيتي، ووقعوا هم مغبة تلك العلاقة الوطيدة، لذلك لم يفقدوا بارقة أمل بتحالف مختلف مع الولايات المتحدة الأميركية، وقد كانت البوابة الأفغانية الفرصة الناجزة، بعدما تحقق لهم الانتشار في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وبذلك يستطيعون اصطياد أكثر من عصفور برمية واحدها. أولها: الانتقام من المعسكر الشيوعي. ثانيها: الاقتراب من المعسكر الغربي، والعمل داخل أرضية مشتركة. ثالثها: حصد نتيجة ما كان قد تحقق لهم في بلاد كثيرة من العالم الإسلامي.

رابعها: تأسيس قاعدة للخلافة الإسلامية المزعومة في أفغانستان لتكون المنطلق للتوسع، لذلك جاء الإعلان التأسيسي الأول من خلال ممثليهم الإخوانيين، منهم عبدرب الرسول سياف وآخرون من طلبة الأزهر المرتبطون بهم قلباً وقالباً، إذ أُعلن عن قيام جبهة موحَّدة للجهاد ضد الروس باسم: «الاتحاد الإسلامي لمجاهدي أفغانستان». الأميركان أفادوا من كل هذه الأدوات التي تحركت تجاههم بثقة، وحملت نيابة عنهم ثقل المواجة مع العدو والخصم اللدود الاتحاد السوفيتي.

من أجل ذلك تشكلت ميليشيات شباب الصحوة الذين جيّشت أرواحهم ودفعوا عنوة بتوجيه ديني طاغٍ للوقوف صفاً واحداً إلى جانب المجاهدين الأفغان. حينها لم يكن للعقل مكان يحدد هوية الأشياء، ويعبّر عنها، أثمرت عن أرواح متعطشة للقتال في سبيل الله، في السعودية انشق شباب إلى ثلاث طرائق. شباب الصحوة الطامحون إلى تجسيد روح الأمة واستشعارهم دنوهم من تحقيق آمالهم بإقامة دولة الخلافة، بعدما قويت شوكتهم وتغلغلوا في مفاصل الدولة، وألبسوا المجتمع العمة حتى بدا أمامهم المجتمع بكل أطيافه صاغراً بلا مقاومة، وشباب آخرون ينسبون إلى حداثة القرن يختلفون عنهم جذرياً في الفكر والتوجّه والحلم إلا أنهم أقل منهم عدداً، أخضعتهم نخبويتهم لتمرير أنفسهم من خلال الخانات الضيقة، يعيشون متعة اللحظة بكل تفاصيلها، يبخرونها كالتعاويذ عبر قصائد شعرية يراها البعض طلاسم تبعث على السخرية، بينما يراها المتشككون شفرات تؤدي إلى الكفر، أما الفريق الثالث وهو الذي لم يستدل على هويته بعد، فانساق طواعية إلى ملذاته عبر البوابة الشرقية عبر مكاتب السفر والسياحة التي استفزت شهوات الشباب، مفرغين من كل شيء سوى أجساد تتقد بالشهوة، هذا التنوع المستحدث بدا وكأن أجندة تحاك في الخفاء، لم تكن تثير الشكوك، ولا أحد يسأل من كان وراء ذاك العبث، وقد رأينا كيف انقسمت ممرات المطار بين شباب يعدون العدة استعداداً للشهادة في أفغانستان، وآخرين يعدون العدة للتمرغ فوق جمر اللذة الحارق، والمستغرب أيضاً أن بعض هؤلاء الشباب كانوا يرتحلون من شواطئ بتايا، قيل إن البواخر الأميركية تقلهم إلى أفغانستان، ومع ذلك لم يتبادر إلى أذهان المستلبين من الطرفين أي أسئلة من نوع كيف ولماذا؟ بما في ذلك شباب الحداثة المتشاغلين بأسئلة مختلفة عن الكون والحياة عبّرت عنها نصوصهم في ما دون الكشف المجرد، وتركت معلقة، فهمها من فهمها، وجهلها من جهلها، في زمن التأليب ذاك رأينا شباباً لم يعرف عنهم انضمامهم إلى العمل الصحوي، لنكتشف أنهم قد انساقوا طواعية إلى أفغانستان، وشباباً آخرين كانوا إلى قبل أيام قلائل معفرين بكل الموبقات، وإذ بهم يحملون «الكلاشات» على ظهورهم، وفي المقابل، فإنك قد ترى شباباً كانوا إلى وقت قريب من موجهي الحراك الصحوي، ثم تراهم يتجولون مع رفيقات الهوى، ثم تسمع في أيام تالية عن استشهادهم في أفغانستان. شيء ينفصل عن العقل تماماً، بل يشبه الجنون، وهذا ما يجب أن يدرس ويفهم جيداً لنستطيع تفكيك العقلية الجهادية التي تشكّلت في غضون 30 عاماً، ثم تدحرجت ككرة نار ملتهبة لترتطم بحواجز صد شطرتها إلى أكثر من كتلة عمياء، تتقاسمها منحدرات إرهابية وعرة.

&

والسؤال هنا: هل نحن معفيون تماماً من تبعات ما حدث سابقاً ويحدث اليوم؟ منذ أن باركنا الصحوة ومنحناها حريتها المطلقة للحركة، وسلّمناها قيادة التعليم وتوجيه المجتمع، وتشكيل ثقافته، وأيدناها في حميتها الجهادية، ودعمناها بالعدة والعتاد، أي يوم كنا عاطفيين جداً، وشهدنا لهم بالجنة، وعلقنا على رقابهم أوسمة الشهادة، وتناقلنا ما قيل عنهم وعن وجوههم المضيئة المبتسمة وروائحهم العطرية، حتى تاقت أرواح لم تكن تحدث نفسها بالقتال لنيل هذا الشرف، وأصبح الذهاب إلى أفغانستان أشبه ما يكون برحلة سياحية، إذ كان بعضهم يذهب للقتال شهراً أو شهرين ثم يعود متباهٍ بما رأى وأنجز هناك، وقد يكشف عن آثار جراح في جسده، ومع هذا لا يجد الخوف إلى قلبه طريقاً، يجعله يتردد بالعودة للقتال، وقد يقتطف بهذا بعض القلوب المتفتتة بما ترى وتسمع، وبفتوى مصدّقة من مشايخهم يتسرب الشباب بسرية إلى هناك من دون علم أهليهم، الذين أذعنوا لكل احتمالات القدر، وتقبلوا نعي أبنائهم بصمت، لم تنطلق حناجرهم إلا يوم كُشفت مآربهم وحُظرت أعمالهم، بل نجد من لا يزال مستمرئاً الصمت والاستسلام؟

&


&