عبد العلي حامي الدين

تتزاحم القضايا والأحداث في الذهن، ويحار الإنسان من أين يبدأ..


لكن الجرح الغائر في غزة يمنع الكتابة في أي موضوع مهما بلغت أهميته، وحجم المأساة التي يتابعها العالم بدم بارد تجعل من الواجب متابعة هذا العدوان ورصد مآلاته ورصد مواقف المعنيين بهذه الحرب من قريب أو بعيد..
اليوم، لابد من طرح سؤال ماذا يعني الانتماء إلى الأمة العربية؟ وماذا يعني الانتماء إلى الأمة الإسلامية؟ ماذا يعني أن نشعر بالانتماء إلى هذه المنظومة الحضارية والتاريخية؟


يشعر المرء بالعار وهو يتابع نوعية المواقف العربية مما يجري في غزة ويقارنه بمواقف عدد من الدول الأخرى..
قبل بضعة أيام أدرجت بوليفيا إسرائيل على قائمة الدول الإرهابية احتجاجا على الهجوم الذي تشنه الدولة العبرية منذ الثامن من تموز/يوليو الجاري على قطاع غزة، وأعلن الرئيس البوليفي ايفو موراليس هذا القرار خلال لقاء مع هيئة تدريس في إحدى المدن البوليفية.وقال موراليس «نعلن إسرائيل دولة ارهابية»، معتبرا أن الهجوم على غزة «يظهرأن إسرائيل لا تحترم مبادئ احترام الحياة والحقوق الأساسية التي ترعى التعايش المشترك السلمي لأسرتنا الدولية».ومن المعلوم أن بوليفيا كانت قد قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل في 2009 بعد هجوم واسع النطاق شنته الدولة العبرية على قطاع غزة، وقد سارت على نفس النهج العديد من دول أمريكا اللاتينية وأبرزها فنزويلا وكوبا.كما قامت كل من البرازيل والإكوادور وتشيلي والبيرو والسلفادور باستدعاء سفرائها في إسرائيل «للتشاور»، وهو نفس السلوك الديبلوماسي الذي اختارته كل من الهند وجنوب إفريقيا..


هذه التحركات الدبلوماسية المكثفة تأتي في سياق الرفض المبدئي للجرائم الإسرائيلية المرتكبة في غزة بعد خمسة وعشرين يوما من القصف المتواصل والتدمير العشوائي واستهداف المدنيين من أطفال ونساء وعجزة، بل وصل مسلسل العدوان إلى قصف المساجد والمدارس بما فيها المدارس التابعة لوكالة غوث اللاجئين..


الرد الإسرائيلي لم يتأخر طويلا: «عليكم أن تستفيدوا من الدبلوماسية العربية» ! كما خرج الرئيس الإسرائيلي السابق شيمون بيريس بتصريحات إعلامية مستفزة: «لم يعد هناك عالم عربي معاد لإسرائيل»..
نعم، علينا أن نعترف بأن الجسم العربي يبدو عاجزا عن الحركة بعدما أصيب بالسرطان في أطراف متعددة من جسده، أوصلته إلى الشلل التام ..


نعم، أقوى الإدانات لمسلسل الجرائم الإسرائيلية جاءت من خارج العالم العربي، مما يجعل السؤال مشروعا حول دلالة الانتماء العربي وماذا يعني الانتماء إلى الأمة العربية؟


ردود الفعل من العالم العربي اقتصرت على بعض الدول التي اكتفت بالتنديد بالعدوان الإسرائيلي على غزة، مطالبة في أحسن الأحوال، بوقف العدوان وفتح المعابر ورفع الحصار على غزة، كما انتقدت بعض الأنظمة صمت المجتمع الدولي والجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي..


وهي عبارات محتشمة ليست في مستوى همجية العدوان ووحشيته، ولا تراعي حجم الشهداء والجرحى ومخلفات الحرب المدمرة على القطاع..
الآن أين تتجه الأمور؟


من الواضح أن الهمجية الإسرائيلية ليست لها حدود، والمجتمع الدولي عاجز عن وقف آلة الدمار الصهيونية في غزة التي تنتقم من المدنيين بعدما عجزت عن تحقيق أهدافها العسكرية وتتكبد خسائر كبيرة لم تكن في الحسبان..
المنظمات الحقوقية وجمعيات المجتمع المدني باتت تعتبر إسرائيل ضمن «قائمة العار» وتدعو المنتظم الدولي على تحمل مسؤولياته ووقف العدوان..
الكلفة الإنسانية لهذا العدوان فاقت جميع التوقعات وضحايا العدوان في ارتفاع مستمر، لكن الكلفة الأخلاقية والسياسية التي تتكبدها إسرائيل تبدو أكبر، والإفلات من العقاب اليوم لا يعني الإفلات من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية غدا..


هل المطلوب اليوم، حقن دماء الشعب الفلسطيني بأي ثمن وإنقاذ أرواح الفلسطينيين التي تواجه الغطرسة الصهيونية بسلاح الصبر والصمود؟ أم المطلوب إقرار الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره وتحرير أرضه من الاحتلال العنصري وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف؟


البيت الأبيض يسرب خبرا بأن الرئيس الأمريكي هاتف نتنياهو مطالبا إياه بوضع حد لهذه الحرب، وهو ما يعني أن تمديد زمن الهجوم العسكري الإسرائيلي بات يحرج العالم بما فيها أكبر دولة مساندة للعدو الصهيوني، كما أن الهدف المستعجل من المطالبة بوقف إطلاق النار بدون اتفاق يشمل الاعتراف بمطالب المقاومة، هو فسح المجال أمام إسرائيل لربح المزيد من الوقت لتعربد في القطاع متى تشاء وبالطريقة التي تحلو لها..


إن بوصلة القضية ينبغي أن تبقى واضحة وهي العمل على إنهاء الاحتلال بكافة مظاهره في كافة الأراضي الفلسطينية..


ما يجري في غزة هو مرتبط بطبيعة القضية الفلسطينية في جوهرها، هو امتداد لنضال تاريخي خاضه الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال العنصري الظالم ودفاعا عن أراضيه السليبة وبحثا عن الحرية والاستقلال.. وأي محاولة للتقسيم بين أبناء الشعب الفلسطيني هو ضرب للقضية الفلسطينية وضرب لمفهوم الحق التاريخي التي تأسست عليه المطالب الفلسطينية المشروعة.


القضية اليوم، ليست فقط قضية إنسانية، وإن كان حجم المعاناة ومشاهد الدمار التي استطاعت أن تبرزها وسائل الإعلام (فما خفي أعظم) تجعل العامل الإنساني حاضرا في أي مبادرة ممكنة، لكن القضية في جوهرها هي قضية سياسية، هي قضية الاحتلال الصهيوني لأرض ليست من حقه، القضية هي ملايين الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم من مدنهم وقراهم وهم يقبعون في الشتات ولا يملك أحد إسقاط حقهم في العودة..


القضية هي قضية شعب سلبت منه أرضه وأعطيت بدون وجه حق لعصابات صهيونية مهاجرة، وجاء الوقت لتصحيح هذا الخطأ التاريخي وإرجاع الحق إلى أهله.. المقاومة الصامدة في غزة والمجاهدون الذين ينوبون عنا في مقاومة العدو، يمثلون حلقة من حلقات هذا النضال التاريخي المجيد، ويعيدون القضية إلى جوهرها الحقيقي..

&