أحمد عبد المعطي حجازي

&

&

&

&

&
لم أكن أعرف حتى فوجئت برحيله أنه مولود فى العام الذى ولدت فيه. عام خمسة وثلاثين وتسعمائة وألف

. ولم أكن أعرف من باب أولى أنه يكبرنى بثلاثة أشهر. ولد هو فى الأسبوع الأول من مارس، وأنا فى الأسبوع الأول من يونيو، لهذا أحسست بعد أن رحل مصطفى حسين، وبعد أن اكتشفت هذا الجامع المشترك، مولده ومولدى فى عام واحد، كأن شيئا حميما انتزع منى انتزاعا. ربما كان إحساسا شبيها بما يحس به التوائم حين يقدر عليهم الفراق.

ومع أنى لم أكن حين عرفت مصطفى حسين فى الخمسينيات الوسطى من القرن الماضى ـ لم أكن على علم بهذا الجامع المشترك، ولم يكن هناك سبب آخر معلوم يجمعنى به فقد نشأت بينى وبينه صداقة حميمة سبقت صداقات كثيرة أخرى دون أن يكون لها فى حياتنا العملية ما تعتمد عليه.


أنا قادم إلى القاهرة من «تلا» فى قلب الدلتا، وهو قادم إليها، إلى القاهرة من القاهرة، بل هو من قلبها الحى النابض، القاهرة أمه وأبوه الذى لم يره. وهو فلذة كبدها،


لن تعرف مصطفى حسين الانسان، ولن تعرف مصطفى حسين الفنان إلا إذا عرفت مصطفى حسين القاهرى. إنه الشرط الذى لابد منه لتعرف نجيب محفوظ معرفة أفضل، وأستطيع أيضا أن أقول إن معرفتك نجيب محفوظ والقاهريين من أمثاله، ومنهم مصطفى حسين، شرط لابد منه لتعرف القاهرة معرفة أفضل فأنت تعرف الأبناء بآبائهم، وتعرف الآباء أيضا بأبنائهم.


والمعرفة الأفضل هنا سر أو مزاج خاص ربما كان عصيا على التعريف، تسألنى عنه كأنك تسأل عن الروح فأقول «قل الروح من أمر ربى».


أن تكون قاهريا كما كان نجيب محفوظ وكما كان مصطفى حسين نسب لا يعبر عن نفسه بإشارة أو لهجة أو زى أو علامة خاصة، وإنما يعبر عن نفسه بالشخصية كلها باللمحة، والقافية، والبديهة السريعة، واللفتة الذكية، والضحكة الطروب التى ينفعل بها الجسد فكأنما هو يرقص على إيقاع نراه وإن كنا لا نسمعه أو نسمعه بأبصارنا كما يقول بعض النقاد.


لقد ولدا معا، نجيب محفوظ ومصطفى حسين، فى الحى ذاته فى قلب قاهرة المعز بالقرب من قصر الشوق وبين القصرين، ومع هذا النسب العريق الجامع فهما مختلفان اختلاف الكلمة، والصورة. ذاكرة نجيب محفوظ ذاكرة زمنية حافلة بالشخصيات.


وذاكرة مصطفى حسين ذاكرة مكانية حافلة بالألوان والصور، يقول وهو يتحدث عن شارع بيت المال الذى ولد فيه، وميدان بيت القاضى، ومسجد الناصر قلاوون: إنه حفظ هذه الأماكن وهذه الشواهد حجرا حجرا، وطوبة طوبة، مئذنة مئذنة، بيتا بيتا، مشربية مشربية. الحارات والأزقة، والكوى والنوافذ، والدروب والبوابات، وفى هذا الحى عرفت مصطفى حسين، لا أذكر متى بالضبط، ولا أدرى كيف.


أنا فى نحو العشرين من عمرى. شاعر ناشئ. نشرت لى بعض الصحف والمجلات بضع قصائد لفتت أنظار المهتمين بالشعر، خاصة فى تلك السنوات التى احتدم فيها الصراع بين المجددين والمحافظين. وكنت قد هيأت نفسى لأشتغل بالتدريس لكن المباحث العامة اعترضت على تعيينى لأسباب سياسية، فرحلت إلى القاهرة بحثا عن عمل فى الصحافة اعتمادا على ما نشرته من شعرى، وعلى ما يمكن أن أنشره منه ليكون شفيعا لى وواسطة عند رؤساء التحرير ومن له كلمة عندهم من الأدباء والنقاد.


وكان هو، مصطفى حسين، فى سنى كما ذكرت، لكنه لم يكن قد أكمل دراسته فى كلية الفنون الجميلة، ومع ذلك استطاع وهو لم يكمل السابعة عشرة من عمره أن ينتزع لنفسه مكانا فى مجلات «دار الهلال»، الغريب أنى أنا أيضا بدأت حياتى الصحفية فى «دار الهلال» لكنى لم أبق فيها إلا خمسة عشر يوما بدأتها فى منتصف يوليو عام ستة وخمسين، وأنهيتها فى نهايته لأنتقل إلى دار «روز اليوسف»، التى كانت فى ذلك الوقت منبرا مفضلا، وحضنا دافئا للكتاب والشعراء والفنانين اليساريين أمثال حسن فؤاد، ومحمود أمين العالم، وصلاح جاهين، وأحمد بهاء الدين، وصلاح حافظ. وقد انضممت لأسرة تحرير «صباح الخير» التى بدأ صدورها فى يناير من ذلك العام.


لكن اختلاف النشأة والدراسة والنشاط الفنى لم يكن عامل فرقة، بل كان سببا للتوافق والتواصل.


كان مصطفى حسين فنانا مثقفا وقارئا نهما كما يظهر فى صور الوجوه التى رسمها للعشرات من الكتاب والشعراء المصريين والعرب: توفيق الحكيم، وإبراهيم عبدالقادر المازنى، وأحمد بهاء الدين، ومصطفى أمين، وجلال الحمامصى، وصلاح عبد الصبور، وعبد الوهاب البياتى، وكاتب هذه السطور. وكما يظهر فى بعض اعترافاته التى نجده فيها، قارئا للشعراء العرب القدماء، ومنهم ابن الرومى، الذى يروى لنا مصطفى حسين من شعره فى الهجاء هذا الكاريكاتور الضاحك!


يقتر عيسى على نفسه


وليس بباق ولا خالد


ولو يستطيع بتقتيره


تنفس من منخر واحد


وكنت فى المقابل قريبا للغاية من الحركة التشكيلية المصرية ومن العاملين فيها، ومنهم عدد من زملائى فى دار «روزاليوسف» وبعض الفنانين والأدباء الذين كانوا موضوعا لرسوم مصطفى حسين، كانوا موضوعا لبعض قصائدى ومقالاتى مثل سيف وانلى، وجورج البهجورى، وتوفيق الحكيم، والمازنى، وكما رسمنى مصطفى حسين، رسمنى رجائى ونيس، وجورج البهجورى، وبهجت عثمان.


وعندما أتأمل الصورة التى رسمها لى مصطفى حسين ونشر صورتها الفوتوغرافية صلاح بيصار فى الكتاب الذى أعده عن الفنان الراحل، اندهش لقدرة مصطفى حسين على تثبيت اللحظة وتأبيدها. الصورة مرسومة فى أواسط الستينيات، لكن اللقطة تعود إلى أواسط الخمسينيات، عندما كنا نلتقى فى حى الحسين لنقضى الليل بطوله فى مقاهيه إلى أن يطلع الفجر فنعود إلى بيوتنا سيرا على الأقدام، أو ننتظر أول ترام يخترق بنا شارع الأزهر وينزلنا فى ميدان الأوبرا.. أقول إن اللقطة تعود إلى أواسط الخمسينيات لأنى فيها جالس على مقعد خيزرانى مغمض العينين مع ابتسامة خفيفة كأنى فى حلم ومتكئ بذراعى اليمنى واليسرى على مقعدين آخرين كأنما هى غفوة تركت نفسى لها آخر الليل. وهأنا أصحو لأجده قد رحل!


&