غادة السمان&

&

&

&


لا تخافوا. لست في سبيلي لجركم الى وادي المراثي والدموع والاحزان كما يحدث كلما رحل قبلنا انسان/انسانة احببناها بعمق… انني فقط اتذكرها ممتنة لاقداري لانني عرفتها. ثم اني اعرف ان الحزن لا ينقص احدا هذه الايام في عالمنا العربي، لذا ادعوكم الى لحظة امتنان روحية لان مخلوقة رائعة اسمها فاطمة السردوك تشع بالعطاء والشجاعة والصمود مرت بكوكبنا ومنحتنا الكثير والهمت مهنيا عددا كبيرا من حملة القلم اللبنانيين والعرب وانا منهم.
وسأذرف دمعتي سرا وانا اودع استاذة كبيرة في حقل الصحافة والصمود والعطاء الانساني هي فاطمة. ودعوني اتحدث عنها بحياد غير بارد.
سمعت باسمها للمرة الأولى حين كنت ازور بيروت قادمة من مدينتي الأم دمشق لتصحيح مسودات كتاب الاول «عيناك قدري» في المطبعة في «الخندق الغميق» ببيروت كسبب رسمي معلن، للتعارف مع مدينة عشقت مناخ الحرية فيها اسمها بيروت.
سمعت من راجح خوري ونهى سمارة يوم دعانا نديم ابو اسماعيل للغداء في مقهى/مطعم اسمه «ماي فلاور» وكنت التقيهم جميعا للمرة الاولى واتعارف مع المقهى للمرة الاولى ايضا دون ان ادري انني بعد ذلك بأعوام سأقيم في مبنى بالقرب منه وسألتقي فيه كل ليلة مع غسان كنفاني.
قالا لي، نهى وراجح ان مجلة جديدة اسمها «شهرزاد» في طريقها الى الصدور وان رئيسة التحرير التي تقوم بتأسيسها وجمع الاقلام لها هي الصحافية في مجلة «الاسبوع العربي» فاطمة السردوك. قلت لهما انني ربما سمعت بهذا الاسم من قبل اذ التقيت قبلها بضابط صغيروسيم اسمه منير السردوك في سهرة في منزل الصحافي فريد ابو شهلا صاحب مجلة «الجمهور» وهي سهرة ضمت الكثيرين بينهم غادة الصحراء (اسم مستعار لأميرة عربية نشرت ديوان «شميم العرار» بهذا الاسم) وسعيد عقل الذي كان متهما بانه كتبه لها (ولم اصدق ذلك) ومستر (تن بورست) وشرحوا لي يومها وانا الجاهلة القادمة من دمشث انه الذي له حصة من بيع البترول هي 10٪ من بلد عربي، وسواهم كثير.
وحين علم الضابط الوسيم انني كاتبة جلس الى جانبي يحدثني بولع عن خطيبته الجميلة الصحافية في مجلة «الاسبوع العربي» فاطمة ناعورة. كان ذلك رائعا. ذلك الحب كله والاعجاب يفيضان من قلب عاشق هيمنت مثقفة جميلة على روحه.

أول رئيسة تحرير وأول عمل لي في بيروت

وتشوقت للتعارف مع تلك الصحافية التي عرفت من ادباء وصحافيين ان مجلتها «شهر زاد» موجهة الى شهريار وشهرزاد معا، اي انها ليست «مجلة نسائية» ترأس تحريرها امرأة (وكان ذلك مألوفا) بل مجلة للجميع وهوما احبه منذ ذلك الزمان.. اي ان تقوم المرأة بمهمة تعارف الناس والمثقفون على انها مهنة رجل.
واتصلت بي في دمشق فاطمة قائلة انها ترحب بحضور اسمي في مجلتها وقبلت، وهكذا التقيت بعدها للمرة الاولى بفاطمة السردوك في مكتبها في «البناية المركزية» حيث كان مقر ناشر مجلة شهرزاد الاستاذ زهير بعلبكي وافراد لها مكتبا انيقا وزرتها فور وصولي الى بيروت بغاية الدراسة في الجامعة الاميركية. ووافقت على العمل معها.

صرت اتفاءل بالعمل مع رئيسة تحرير

ولم اكن أدري يوم صافحت فاطمة ناعورة السردوك للمرة الاولى منذ الف عام بانني التقي بوجه الخير وفاتحة النجاح، بل وبواحدة ستصير من اقرب صديقات العمر الى قلبي والتي لن يفرقني عنها الا الموت.
فاطمة السردوك كانت رائدة صحافية منذ بداياتها. اقتحمت مجال الكتابة السياسية في مجلة «الاسبوع العربي» قبل ان تفعل ذلك اي كاتبة عربية اخرى ـ وكان ذلك الحقل حكرا على الرجال ـ واقتحمت مهنة تأسيس مجلة واداراتها ولم تسبقها الى ذلك امرأة عربية وانا شخصيا (اكرر) احب كثيرا ان تتولى امرأة تلك المهام التي يتم تقليديا اسنادها الى (رجل).
وهكذا كتبتُ في مجلتها «شهرزاد» الصفحة الاخيرة بعنوان «كلمات دافئة»، وكانت فاطمة السردوك اول من اخترع تحويل الصفحة الاخيرة الى موقع اعلامي مطروق.
وقبل فاطمة السردوك كانت الصفحة الاخيرة مرصودة للنكات والابراج والاقوال المأثورة والطرائف وكتابات من هذا النمط.
في مجلة(شهرزاد) تعارفت مع رهط الصحافيين الشبان صاروا فيما بعد مشهورين واصدقاء مزمنين.
فاطمة لم تكن رئيسة تحرير احتكارية. وحين تلقيت عرضا للعمل في «الاسبوع العربي» وكتابة عمود اسوة بعمود ليلى بعلبكي فيها، وهي التي سبقتني الى ذلك، رحبت فاطمة بالأمر وقالت لي انها كصديقة تجد ذلك مفيدا لي ككاتبة ناشئة تحاول شق طريقها.. وهكذا انتقلت الى «الاسبوع العربي» لكتابة صفحة خاصة بي، وتعززت صداقتي مع فاطمة وصارت شخصية وحميمة. ودامت العمر كله على مدى عقود، اصدرت خلالها خمسين كتابا وترجم بعضها الى 18 لغة لكنني ظللت دائما استمع الى آرائها النقدية فهي مثقفة كبيرة تقرأ بالعربية طبعا وبالانكليزية التي تتقنها. قبل عامين اخبرتها انني اعمل على رواية جديدة اسمها (وداعا يا دمشق) واقوم بتدوين مذكراتي بلا اقنعة (كعادتي) وانني دونت حادثة فوجئت بها وقعت من زمان حيث كنت ما ازال طالبة في الجامعة الامريكية.

صلة انسانية وصديقة عمر

يومها ذهبت الى بيت فاطمة وكانت تصطاف في بيت يقع بين عاليه وبحمدون وايقظتها من النوم بعد منتصف الليل ونومها مرهف ويكفي ان تقع ريشة قرب اذنها لتستيقظ.
في البداية كانت قد نسيت الحادثة وحين قلت لها انني اكتب مذكراتي واتذكر بالضبط اين اصطافت، في المفرق الثاني على يمين الشارع بعد ان تتجاوز «عاليه» صوب بحمدون حيث تدخل السيارة في درب ترابية وبيتها الى يسار الزقاق في الطابق الثاني. تذكرت. ولعنت ذاكرتي التي لا تدعني وشأني لاريح واستريح. يومها اتخذت قرارا بـ«فك خطبتي» مع صحافي لبناني كبير بعد عام من الارتباط والحب المشتعل لانني اكتشفت ان هذا الزواج سينتهي بالطلاق وانا لا اريد طلاقا وشجعتني.
لقد لجأت ليلتها الى صديقتي فاطمة ولعلها استيقظت بالحدس قبل ان اقرع الباب، فقد كانت حاستها تلك نشيطة على نحو استثنائي. ولم تعد صلتنا مهنية فحسب بل صارت اولا صداقة انسانية. ولم اكن الوحيدة التي تلجأ الى فاطمة في زمن (اعلان الطوارئ) العاطفية بل كانت الصديقات كلهن يستشرن حكمتها.

أشهر رواية عربية غير منشورة!

وعرفتني فاطمة على صديقتها منذ ايام دراستها في القاهرة النجمة السينمائية الرائعة ماجدة، واتفقت معها على تحويل روايتي (السقوط الى القمة) الى فيلم سينمائي ونشرت الخبر يومئذ الصحف كلها كما نشر الشاعر نزار قباني ـ الذي تقاعد في بيروت من العمل الديبلوماسي ـ اعلانا في صفحة كاملة من مجلة «الآداب» معلنا انه سيصدر (كباكورة) لدار نشره ديوانه «يوميات امرأة متمردة» وروايتي «السقوط الى القمة» لكن روايتي سقطت في براثن تشردي وسرقت مني في حقيبة كنت احملها في احد المطارات الاوروبية، واستطيع ان اتخيل مدى خيبة امل السارق الذي لم يجد فيها نقودا بل اوراقا بلغة يجهلها. ولم يتحقق الفيلم الذي تحمست فاطمة له، لكن عنوان روايتي الهم الكثيرين كتبا واقلاما وكانت فاطمة تغضب لذلك وصارت «السقوط الى القمة» اشهر رواية عربية غير منشورة وتتندر فاطمة بذلك.

الصامدة الأولى

ثم جاءت الحرب وظللنا نتواصل دون انقطاع…
وكل منا مقيمة في (جبهة!). انا في (جبهة) «قصر الداعوق» الذي صار يتوسط خط الحرب بين «الهوليداي ان» و«برج المر» وهي في (جبهة) «رأس النبع». صمدنا في بيروت العرب. صبرت عشرة اعوام فقط حتى اضطررت وزوجي للاقامة في سويسرا فباريس. وكانت فاطمة اميرة الصمود الاولى لأنها لم تغادر يوما بيتها وكانت شجاعة في مواجهة مسلحين من الانماط كلها تعاقبوا على بيروت وحي «رأس النبع». حاولوا استعمال شرفاتها وسطح مبناها وبيتها موقعا حربيا، وحرمتهم من ذلك دونما خوف من منطق السلاح غير الشرعي وهي زوجة عميد في الجيش اللبناني الذي يمثل وحده السلاح الشرعي في لبنان، فقد كانت اميرة من اميرات رعايا الحرية ورفض وباء العنف المجاني و(الزعرنات) والارهاب بالاستقواء والاستعلاء وتخويف الناس.
وعلى الرغم من الحرب كانت فاطمة تعبر على ايصال الفرح الى قلب اسرتها وبهجة العيش والنظر الى المستقبل بتفاؤل.. وذات صيف لم نر خلاله سوى عتمة الملاجئ ودهاليز البيوت احتماء بجدرانها من القذائف،توقف القصف. وكلنا تعلمنا ان ذلك يعني هدنة عابرة جلبا للذخائر استعدادا لجولة اخرى بين موت وآخر، وتهاتفنا صديقتي الصحافية الكبيرة فاطمة السردوك وانا واقترحت ان نذهب الى الحياة والشمس والبحر والمسابح وتجاوبت.. وذهبنا برفقة طفليها (يومئذ) رمزي وريم وطفلي حازم (الشبان اليوم).كانت المسابح كلها مغلقة وقررنا السباحة اينما كان.

السباحة تحت الرصاص

قرب فندق «الريفييرا» في كورنيش بيروت هبطنا بعدها تسلقنا الحاجز الحديدي وقفزنا الى الصخور فالبحر بعدما تركنا ثيابنا في السيارة. كانت المياه دافئة فرح بها (اطفالنا) وزقزقوا طربا للامواج والبحر وكنا قد ارتدينا ثياب الاستحمام تحت الزي المألوف الحربي(اي الجينزوالقميص الابيض) وسبحنا بمتعة والمكان لا يخلو من الناس كعادة (البيارتة) ورغبتهم في ممارسة حب الحياة بين رصاصة واخرى.
ولم يتحرش بنا او يضايقنا احد ونحن نحنو على اطفالنا الذين لم يروا من الدنيا غير الحرب والقنص والقصف. ولكن سلامنا لم يطل، اذ تقدم منا مسلح في ثياب الاستحمام لكنه يحمل رشاشه، وقال لنا بلطف بالغ: الرجاء الانسحاب والاولاد الى الشاطئ بضع دقائق فقط. ثمة رجل يسبح بالقرب منكم نريد ان نقتله ونخشى ان تصيبكم رصاصة طائشة!
وشكرناه على «كرم اخلاقه»، وانسحبنا بسرعة من الموجة الى الصخور ونحن لا نصدق ان ذلك يحدث حقا.
ولم تكد اقدامنا تمس الشاطئ حتى انهمر الرصاص على بقعة بحرية خلت فجأة من الناس، الا من الهدف. شاهدناه رجلا مستدير الرأس كث الشعر يعوم فوق الماء، ثم اختفى.. قلنا حسنا، انتهت مراسم الاعدام، فلنعد الى البحر! وشهدنا بذهول امام ذلك الموت الغريب تحت تلك الشمس الساطعة البريئة، لكن بيروت كانت قد علمتنا بقسوة ان لا نتدخل فيما لا يعنينا.. وصارت صلتنا بالحياة سوريالية كلها ضحكات بحرية مالحة وبعد قليل فوجئنا «بالقتيل» سابحا الى جانبنا! وشهقت ذعرا وابتسم «المرحوم» وعرفنا انه «قبضاي» و«سمكة قرش»، يتقن السباحة تحت الماء وانه لم يبال بالتهديد وها هو يسبح وقد جاء اتباعه خلال لحظات «مستنفرين»، وانتشرالمسلحون وتكهرب الجو، و«المرحوم» مصر على نزهته المائية بين اولادنا! وهو يعلن شجاعته ولامبالاته بالتهديد.. فأعلنا خوفنا، ولملمنا، اطفالنا من الماء فرخا فرخا، وانسحبنا شاكرين للمسلحين هذه البادرة الانسانية نحونا بتحييدنا. ولم تكد السيارة تتحرك بنا ونحن نقطر ماء وفي ثياب الاستحمام، حتى انهمر الرصاص وانفجرت المعركة. فانفجرنا نضحك بصوت مالح كالدم.

رائدة في الكتابة السياسية والشجاعة

ولم يكن ذلك الصباح الطائش وحده يتهدد حياتنا، فقد تعرضت وفاطمة لخطر الموت مرات على طريق (الرينغ) البيروت، اي الشارع الشهير الذي كان يربط بين بيروت الشرقية والغربية، ذلك ونحن في طريقنا الى مقر عملنا في الاشرفية في مبنى «الاسبوع العربي» مقابل «فيلا سرسق».
وذات صباح كنا على (الرينغ) وفاطمة تقود السيارة ونسمع صوت الرصاص من هنا وهناك حين انفجرت السيارة امامنا بقذيفة وارتجت بنا سيارتنا وكدنا نطير لعنف الانفجار، لكن فاطمة ظلت تمسك بالمقود بحزم.
بعدها اصر زوجي على ان اتوقف عن العمل في (الشرقية) وفعلت، ولكن فاطمة ظلت تذهب الى العمل عدة اسابيع بعدي بمفردها مع الجندي سائق زوجها حتى تم قطع الطريق لاحتدام الحرب.
فاطمة كانت رائدة في حقل الصحافة اذ لم يسبق ان كتبت انثى في السياسة قبلها بذلك الاطلاع والتحليل الذكي.
وكانت تكرر لي (انا مخلوق سياسي) ولحقت بها الكثيرات من العاملات المتألقات في ذلك الحقل لكنها كانت رائدة شقت الدرب. وحاورت باقتدار كبار الشخصيات السياسية اللبنانية والفلسطينية. عملت في «الاسبوع العربي» فجريدة «اللواء» الكثير من المنابر التي كانت مستشارة لها ودائما ثاقبة النظرة السياسية وفية للحرية والشجاعة والصمود ولم تغادر يوما بيتها على الرغم من ان جبهة «رأس النبع» كانت «حارة» جدا.
لم تكن فاطمة وفية فحسب بل كانت تحب الوفاء وكانت مسرورة حين وجدته مثلا لدى الصحافي راجح خوري (وهو احد الشبان الصغار الذين عملوا معها في مجلة شهرزاد) اذ ذكرت لي انها التقت به قبل حوالي عامين في مناسبة ادبية فكرية واحتفى بلقائها وعبر عن وفائه لايام العمل معها.. وانحنى وقبل يدها باحترام واجلال.
لقد كتبت عن اختي الحبيبة وصديقة العمر فاطمة قبل عام ونصف العام تحت عنوان«نساء رائدات» فأنا اكره ان نحرم الاحياء من حبنا ونقوم بتزيين توابيتهم بالنياشين والقصائد بعد رحيلهم.
واخط اليوم هذه السطور مكسورة القلب والخاطر،اذ كنت قد واعدت نفسي بجلسة غداء مع فاطمة على شاطئ البحر كعادتنا كلما زرت بيروت.
هذه المرة ستخفف فاطمة موعدها مع فرحتي بلقائها ولن اخلف موعدي مع دمعة حسرة لغيابها.
&