فهد بن محمد السلمان


الوسط فيما نفهمه هو ما تستقيم به رمانة الميزان عن الرجحان هنا أو هناك، أو هو كما يقول بعض المفكرين فضيلة بين سوأتين سوأة الإفراط وسوأة التفريط، سوأة الغلو وسوأة الانفلات، لكن السؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم، وفي ظل ما يجري على الساحة من أحداث تمس مباشرة موقع هذا المصطلح، وتحجب عنه الرؤية هو: هل بقي الوسط في مكانه الطبيعي والموضوعي في سياق لعبة شدّ الحبل الذي جرّته داعش والنصرة وميلشيات الولي الفقيه إلى أقصى مدى باتجاه قعر بئر الغلو والتطرف بتلك الانتهاكات التي لا تجرمها الأديان السماوية وحسب، وإنما تجرمها الآدمية أو الانتماء الأخلاقي لبني البشر؟، هل بقي هنالك نقطة يُمكن أن يُشار إليها على أنها نقطة الوسط؟، أم أننا أصبحنا رغما عن أنوفنا أمام وسط جديد اخترعته الظروف، وفرضه الأمر الواقع، بحيث أن كل من لم يستخدم سكاكين تلك التنظيمات الإرهابية، وطرقها المتوحشة في استلاب الحياة إما بالحرق أو جز الرقاب أو دفن الأحياء يستطيع أن يدّعي الوسطية حتى وإن كان في حقيقة الأمر يرتدي جلباب التطرف فكرا وثقافة وسلوكا؟.

وبصياغة أخرى.. هل تنحصر ترجمة الوسطية والاعتدال في تحاشي طبيعة السلوك العنفي فقط، أم إنها تنسحب أيضا على نمط التفكير وما يتصل به من قناعات التشدد، والتي تمثل الحاضنة الطبيعية والرحم المثالي لاستيلاد العنف بصوره المختلفة؟. أنا لا أجد من يُناقش هذه الإشكالية على أهميتها، والتي ربما نفذ من خلالها الكثير من المتشددين، فقط لأنهم لم يلوثوا أيديهم بدماء الآخرين ليدّعوا أنهم السفير المفوض فوق العادة للوسطية، والقائمين مقام الاعتدال، إلى الحدّ الذي أتاح لبعضهم أن يظهر على مواقع التواصل الاجتماعي رغم كل ما يعرفه الناس عن آرائه المتطرفة، ليتحدث عن الوسطية وكأنه هو الناطق الرسمي باسمها، داعش هي من منحته هذا الصك المزور للبراءة من تهمة التطرف لأنها ذهبت بالغلو إلى نهاية الحبل، وإلى ذلك الحدّ الذي لم يعد يبقى هنالك حبل فائضٌ منه ليُشدّ أكثر بين الطرفين.

فكر داعش لم ينمُ فجأة كفطر الأرض، ولم يسقط هكذا من غيمة هائمة في عنان السماء، وإنما نبت ورقة ورقة، وغصناً غصناً وتحت أعين الجميع، بسقاية تراكم مياه التشدد الآسنة، وتسميد الأرض تحته بسماد الغلو دون أي محاولة جادة لتنقية التربة أو التأكد من خصوبتها لاستزراع نبات سليم وغير مهجن أو مشوّه، وخال من كيماويات التطرف. كان هنالك دائماً من يجرّ الحبل بالاتجاه الآخر، والناس كل الناس يرون أن نقطة الوسط ما عادت في منتصف ساحة اللعبة، لكنهم كانوا يضحكون على أنفسهم، أو هكذا يبدو، من أنه لا ضير من ذلك طالما أن هنالك أملاً في أن يعود الوسط إلى مكانه وموقعه، متناسين أن ثقل الوزن في كفة ما، والإذن بالتطفيف لصالح إحداها، أيّا كانت هذه الكفة لا يُمكن أن يسمح بوجود منطقة وسط مؤهلة لاستقطاب الكتلة الأكبر، خاصة وأن مُعادل الوسطية يستلزم أن يكون هو معيار ضبط الحمولات بما لا يعطي الحق لأي من الكتلتين للرجحان، وذلك باستدعاء كل الثقل إلى مركز التوازن، وليس إلى توازن الكتلتين. هل يبدو أنني أفلسف الموضوع أكثر مما ينبغي؟

ربما يكون ذلك، لهذا سأنتهي إلى القول بوضوح ووفق ما أعتقده: إننا كأمة حوصرنا داخل مساحة أو فضاء فكري وثقافي ضيق إلى درجة الاختناق، انتقلت فيه كتلة الثقل لصالح قيم التطرف، بحيث أصبح النظر للكثير من المتطرفين وهماً أو توهّماً على أنهم وسطيون ولا أجمل، لا لأنهم كذلك فعلا، وإنما فقط لأن الأنظار باتت مشدودة الى ما هو أبعد.. إلى من هو خلفهم من تلك التنظيمات التي جعلتْ كل من لا يؤمن بمناهجهم مجرد قطعان من الخراف يجب أن تساق إلى المذابح، أو إلى مواقد الشواء.
&