&مسفر بن علي القحطاني

&علم أصول الفقه يمثّل المجال المنهجي والاستدلالي في المعرفة الإسلامية، وهو من أبرز العلوم التي تميز بها المسلمون، وشكّل نقلة علمية في توسع الفقه ونموه وتفرع المذاهب والمدارس منه، والمنهجية الأصولية تاريخياً، قد أحكمت على الكثير من العلوم الأخرى، ومن بينها علم الحديث والتفسير والعقائد، وأضحت الدراية الأصولية من أهم الشروط في الاجتهاد والاستنباط في العلوم كافة المنبثقة من النص والوحي، ولا يزال الكثير من أهل العلم يعدّون أهم المجددين في الأمة الإسلامية، هم فئة المشتغلين بأصول الفقه، كالإمام الشافعي والباقلاني والغزالي والرازي وابن تيمية والشاطبي، وقد ظهر تفوقهم المعرفي في مجال المنهجية والتأصيل، لذلك كانت أبرز المساهمات التجديدية في الأمة، قد حصلت ضمن المجال الأصولي والتقعيدي، لأن مناخه يقتضي النظر والاجتهاد واستيعاب الأدوات اللغوية والعقلية كافة في خدمة النص تأصيلاً وتنزيلاً، وهذا ما يجعل الشريعة مواكبةٌ للمتغيرات ومتطورةٌ في استيعاب المستجدات.

يقول الإمام الغزالي في بيان شرف علم أصول الفقه: «وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع، وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل، فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد» (المستصفى للغزالي، الطبعة الأولى 1413 دار الكتب العلمية 1 - 4 ).

ويمكن أن أتناول في هذا المقال صورة تجديدية واحدة ظهر فيها علم أصول الفقه ضابطاً وموجّهاً و محرراً للعقل من سطوة الإلف على القديم أو التعصب للمذهب، والمتمثلة في فرع من فروعه وهو علم الجدل، ومدى تأثير هذا العمل على ما يسمى اليوم «التفكير النقدي»، ويمكن إبراز تجليات هذه المقاربة المنهجية بين علم الجدل والتفكير النقدي في النقاط الآتية:

أولاً: ذكر البيهقي بسنده عن أحمد بن حنبل، قوله: «الشافعي فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة، واختلاف الناس، والمعاني، والفقه» (معرفة السنن والآثار للإمام البيهقي رقم الأثر 95 1/118)، وهذا الأثر من إمام أهل السنّة أحمد بن حنبل في وصف شيخه بالفيلسوف تجعلنا نقف أمام الباعث لهذا الوصف، والمتكرر أيضاً في شكل يوضح ما أراده الإمام أحمد ويؤكد حقيقة هذا الوصف وأنه ليس بإطلاق عابر، وهو ما جاء عن الفخر الرازي في وصف الإمام الشافعي بقوله: «وأعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة أرسطاطاليس إلى علم المنطق... فالناس كانوا قبل الإمام الشافعي رضي الله عنه، يتكلمون في مسائل أصول الفقه ويستدلون ويعترضون، لكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معارضتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي رحمة الله عليه، أصول الفقه ووضع للخلق قانوناً كلياً يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع، فثبت أن نسبة الشافعي إلى علم الشرع، كنسبة أرسطو إلى علم العقل» (مناقب الإمام الشافعي، للفخر الرازي، تحقيق د. أحمد السقا، الطبعة الأولى، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة 1986م، ص 157)، فالدور الرئيسي الذي قام به الإمام الشافعي هو مَنْطقة الفقه (من المنطق) كما قام أرسطو بمنطقة الفلسفة، وهذا الدور الذي ظهر في كتاب الرسالة للشافعي، يعتبر من أهم الأدوار التي أنضجت الفقه وبقية العلوم الأخرى، كما أنه أيضاً رسم ملامح الائتلاف ومعاقد الاختلاف بين المدارس الفقهية وعرّفها للأتباع لبناء وعي في الاتّباع بدلاً من التقليد القائم على الانصياع، وأبرز من اشتغل على دور الشافعي الفلسفي (البرهاني) من المعاصرين هو الدكتور محمد عابد الجابري في كتابيه (تكوين وبنية العقل العربي) بصورة تحليلية أبستمولوجية واعتبر الشافعي: «المشرّع الأكبر للعقل العربي» (بنية العقل العربي، لمحمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة السابعة 2004، ص 22) لأن الضوابط والقواعد الاستدلالية التي أسسها الشافعي بحثاً عن الحكم الأوفق للدليل، أدت إلى نشوء منطق فقهي سديد الرؤية عميق النظر وبعيد الأثر، ولذلك استمر واستثمر ولا يزال يُنتج لولا هيمنة التقليد في عصور الانحطاط، والدكتور مصطفى النشار في بحوثه حول مناهج الفلسفة قد نصر الاتجاه القائل أن الفلسفة الإسلامية كانت نتاج قرائح علماء المسلمين وأهمهم علماء الأصول، وليست من نقلهم وترجمتهم للفلسفة اليونانية المتأخرة عن الإبداع الاصولي قروناً عدة (انظر: مدخل إلى الفلسفة، للدكتور مصطفى النشار، الدار المصرية السعودية، القاهرة، 2005م، ص 73، 74).

ثانياً: من تجليات هذا العقل الأصولي الاستدلالي ابتكاره لعلم الجدل والحِجاج، وذلك في مسعاه تقرير الأدلة وضبط أوجه الاستنباط منها، من خلال افتراض جملة من الاعتراضات يقدمها ما يسمى(المعترض) على صاحب الاستدلال المسمى (المستدل)، وفائدة هذا النمط من التقرير، تقوية الحجج وتمكين صاحب الدليل من الترجيح، وهذا العلم النفيس له مراتبه التي تتنوع وفق الوظيفة الجدلية، فهناك الجدل والمناظرة والحجاج والسفسطة وهي الأقل رتبة في إظهار قوة الدليل وبيان الحق، ويبقى الجدل والمناظرة من طرائق المنطق التي طورها علماء الأصول وصنفوا فيها كحاجة عقلية، تدرأ عن الاستدلال مداخل الهوى وبواطن الميل العاطفي، والجدل كما عرّفه أبو الوليد الباجي هو: «تردد الكلام بين اثنين، قصد كل واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول صاحبه» (انظر: كتاب المنهاج في ترتيب الحجاج لأبي الوليد الباجي، تحقيق: الدكتور عبدالمجيد تركي، الطبعة الثانية 1987م، نشر دار الغرب الإسلامي، ص 11) وعرفه المرداوي بأنه: «فتل الخصم عن قصده لطلب صحة قوله، وإبطال قول غيره مأمور به على وجه الإنصاف وإظهار الحق» (تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول لعلي بن سليمان المرداوي، ومعه شرح الفتوحي، طبعة مكتبة السنّة المحمدية، ص 578)، وقال ابن الجوزي في أهميته: «أن معرفة هذا العلم لا يستغني عنها ناظر، ولا يتمشى من دونها كلام مناظر، لأن به تتبين صحة الدليل من فساده، تحريراً وتقريراً. وتتضح الأسئلة الواردة من المردودة إجمالاً وتفصيلاً، ولولاه لاشتبه التحقيق في المناظرة بالمكابرة، ولو خُلّي كل مُدّع ومدّعى ما يرومه على الوجه الذي يختار، ولو مُكّن كل مانع من ممانعة ما يسمعه متى شاء: لأدى إلى الخبط وعدم الضبط، إنما المراسم الجدلية تفصل بين الحق والباطل وتبين المستقيم من السقيم فمن لم يحط بها علماً كان في مناظراته كحاطب ليل» (الإيضاح لقوانين الاصطلاح، للإمام ابن الجوزي، تحقيق الدكتور فهد السدحان، الطبعة الأولى 1991م، ص 5). فالأصوليون قدموا في علم الجدل إضافات مهمة متعلقة بترتيب الأسئلة والاعتراضات من حيث القوة والضعف، وقرروا قواعد ضابطة عند الجدل والمناظرة، كما ختموا كل كتاب أو باب للجدل بأهمية الأدب عند الجدال وحسن القصد في طلب الحق، وهذا مآله تقوية المنهجية وضبط المعرفة، وما أحوج العقل الديني اليوم في خطابه وحواره من ضرورة ممارسة هذا اللون من التحقق والضبط، والعناية بهذا الإرث المتقدم في إصلاح الفكر وتطوير مهارات التفكير.

ثالثاً: نحتاج لترسيخ مبادئ هذا العلم وقواعده، العمل على إعادة اعتبار وجوده في الدرس والتصنيف، فالجامعات اليوم لا تُعنى به إلا في إطار محدود ولطلاب الدراسات العليا في شكل مخصوص، كما أن التصنيف الذي يزاوج بين تراثنا الجدلي وحاجتنا للتفكير النقدي قد يثير اهتمام القراء والباحثين لهذا النوع من الكتب والمعارف، علماً أن الجدل من حيث المنهجية ساهم في تطور الفكر الفلسفي الإغريقي وشجع أكبر الفلاسفة الغربيين كديكارت وكانط وهيغل في إحداث أهم النظريات المعرفية المعاصرة، وأصبح لهم بسببه حضور عارم في الفكر الغربي، خصوصاً هيغل، عندما قرر أن الجدل ليس صفة عارضة للتفكير ولا خاصية أو نشاطاً ذاتياً له، بل له طابع موضوعي عام، فالمنهج لا ينفصل عن موضوعه، وهذا المضمون وما يكمن فيه من تناقض هو الذي يحركه، ويجعل منه مبدأً عاماً يدرس الأشياء في طبيعة وجودها ذاته، وفي حركتها، فالجدل عنده مبدأ كل حركة تكون علمية، أي فلسفية. فهذه المساهمات التي قدمها علم الجدل للفكر الإنساني مهمة في تطوير مهارات وأدوات التفكير النقدي، هذا النوع من التفكير الذي أصبحت له أهمية أمام هذا السيل من المعلومات والتحليلات والأخبار التي تتدفق علينا وتنتشر بيننا في شكل لم يسبق له مثيل من خلال الوسائط الإلكترونية وشبكات المعلومات، بالتالي نحتاج في مواجهة هذا الزخم المندفع إلى عقولنا أن نفكر في المعقول منه، ونتأمل في صحته من خلال معايير منطقية وأدوات علمية تقترب من التمحيص والتصفية للمقبول من تلك الأفكار، وهذا ما يجب غرسه في عقول الناشئة، فضلاً عن بقية أفراد المجتمع، ويمكن من خلال تأصيل علم الجدل وتبسيطه، والبحث في مساهمات علماء الأصول، أن يجد هذا العلم القبول الواسع في أوساطنا الإسلامية، ويتوطن في ثقافتنا وخطابنا الديني، حيث إن علماء الأصول هم حجر الزاوية في النهوض بهذا العلم وتطويره، وقد قدموا مساهمة مباركة في طرائق الاستدلال والاعتراض، كما قدموا أيضاً قواعد جدلية يمكن أن نستلهمها في تحسين تفكيرنا النقدي وتمكين أدبياته في واقعنا، ومن تلك القواعد:

«صحة الدليل تستلزم صحة الحكم، بينما لا يستلزم صحة الحكم صحة الدليل»، «تغيير العبارات لا ينتج تبديل الحقائق»، «الأصل بقاء ما كان على ما كان، والأصل في الكلام الحقيقة»، «عدم العلم ليس علماً بالعدم»، «الحكم يوجد بوجود سببه وشرطه وانتفاء موانعه»، «لا ينسب لساكت قول ولكن السكوت عند الحاجة للبيان بيان»، «إن كنت ناقلاً فالصحة، أو مدعياً فالدليل» إلى غيرها من القواعد الكثيرة التي قررها علماء الجدل في كتبهم (انظر على سبيل المثال: كتاب: الكافية في الجدل لإمام الحرمين الجويني. تحقيق: د. فوقية حسين محمود. دار النشر: مكتبة الكليات الأزهرية بمصر، كتاب: المعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي. تحقيق: عبدالمجيد التركي. دار النشر: دار الغرب الإسلامي بلبنان، كتاب الجدل على طريقة الفقهاء لابن عقيل الحنبلي، دار نشر: مكتبة الثقافة العربية بمصر، كتاب: آداب البحث والمناظرة للشيخ الشنقيطي. تحقيق: سعود بن عبدالعزيز العريفي. دار النشر: دار عالم الفوائد بالرياض، كتاب: منهج الجدل والمناظرة في تقرير مسائل الاعتقاد. تأليف: الدكتور عثمان علي حسن. دار النشر: دار إشبيليا للنشر والتوزيع بالرياض).

ولو عرضنا تلك القواعد على المناقشات والمناظرات التي تحصل اليوم بين المختلفين، لوجدنا أن إدراك تلك القواعد قد يخفف من غلواء التكفير والتفسيق بناءً على كلمة قد تحتمل التأويل أو موقف يحتمل الشبهة، كما يؤسس في العقل الفردي قدرة اتخاذ موقف علمي أو التعامل مع نص أو عبارة، تعصم فكر الناظر من الجنوح أو الوقوع في الخطأ، كما أنه يرقى بالمناقشات من هيمنة المغالبات والسفسطة إلى تحقيق الصواب والوصول إلى الحق، لهذا قال الإمام الجويني: «الجدال، من آكد الواجبات، والنظر من أولى المهمات، وذلك يعم أحكام التوحيد والشريعة» (الكافية في الجدل للجويني، ص 14).
&