فواز حمد الفواز

&


اختارت إيران استراتيجية واقعية واضحة في العالم القريب لها خاصة العربي: المراهنة على الأقليات مستغلة عدم كفاءة الحوكمة وتعثر التنمية فيها. الخطاب الرسمي الإيراني يقوم على شعارية "الثورة الإسلامية" ولكن حتى هذا الخطاب ليس ما يشرح التصرفات الإيرانية، فإيران تتصرف بمنهجية واقعية لخدمة مصالحها الوطنية. القلب النابض لهذه الواقعية عبر عنه وزير الاستخبارات السابق ومستشار الخمنائي يونسي حين تحدث عن مركزية بغداد في فلك الأمة الإيرانية "الفارسية ـــ فلم يقل الفارسية إمعانا في توظيف الشعار الإسلامي". إيران مثل غيرها تسعى لتوسيع دائرة نفوذها من قاعدة مجتمعية طموحة في اختلاف جذري عن الدول العربية التي لم تتعلم من إسرائيل، ويبدو أن التعلم من إيران يسير ببطء شديد أيضا. واقعية إيران تتركز على ثلاثة مقومات لم تأخذ بها الدول العربية حتى المؤثرة منها.

الأولى أنه بعد الحرب العراقية الإيرانية شعرت النخبة بمدى الحاجة إلى الاستقلال في التقنية والعلوم، الملف الذري يخطف الأنظار، ولكن هناك ما هو أشمل وأعمق. شرعت بالتصنيع في كل المجالات وخاصة العسكرية. فمثلا أجرت الـ "واشنطن بوست" قبل نحو عشر سنوات تحليلا موسعا عن صناعة الصواريخ البلاستية وقارنت بين تجارب العراق وإيران وكوريا الشمالية، ووصلت إلى أن مسعى إيران هو الأكثر شمولية وتنظيما من علوم تنقية المعادن إلى الوقود الصلب. اطلعت على تقرير عن طلاب البعثات الإيرانية في الدول الغربية نشره معهد دراسات الشرق الأوسط الأمريكي، حيث ذكر أن نحو 90 في المائة منهم يدرسون الهندسة والعلوم المادية في جامعات من الصف الأول والثاني بينما نحو 70 في المائة من الطلاب السعوديين يدرسون علوما إدارية واجتماعية في جامعات من الصف الثالث والرابع وأحيانا أقل. استمرار البعثات بهذا النهج هدر مالي ومعنوي، حيث يعطي الجميع رسالة خطأ في وقت غير مناسب، فما كان مناسبا بعد تجربة نصف قرن من البعثات لم يعد يخدم الوطن بل إنه ضرر واضح مهما حاولنا تسويغ الموضوع ووظفنا كل التبريرات. وحتى إعادة إدارة البعثات الجديدة لا يوحي بتوجه جذري. نقل التقنية أشمل من البعثات ولكن يصعب أن تتم عملية معقدة في أحسن الأحوال دون إعادة تفكير جذرية في الأوليات البشرية خاصة أن البرنامج مكلف ماليا ويتضمن رسائل للجميع أهمها تكوين نخبة ضعيفة هشة.

نقطة الاختلاف الثانية تتمثل في الخيار السياسي. اختيار إيران للسياسة الواقعية يأتي على حساب الجانب الأخلاقي، ولذلك تجد إيران في الرسالة الدينية غطاء ولكن لما تصل الأمور إلى تسليح وتدريب الأقليات على السلاح يصبح الغطاء الأخلاقي مجرد علاقات عامة مكشوفة. تراهن إيران على الأقليات المذهبية وهذا أحيانا يمتد حتى للسنية منها مثل الجهاد والآن تتحدث الأخبار عن دعم لطالبان ـــ قراءة واقعية، حيث إن طالبان تحقق نجاحا على الأرض. تراهن إيران على مجموعات مؤثرة وبمعزل عن الحكومات حتى دعم الأقلية العلوية في سورية يمكن قراءته من هذا المنطلق. يقابل هذه الواقعية نهج سعودي وحتى تركي ومصري أكثر محتوى أخلاقيا ونزعة نحو السلم وتفادي الحروب الأهلية. هذا الخيار الإيراني أثر تأثيرا بالغا في أنماط وطبيعة علاقة المملكة مع دول المنطقة مثل اليمن وسورية ولبنان. اختلفت الدول في تعاملها مع نهج إيران، فمثلا تعاملت المغرب بحسم حين طردت كل الدبلوماسيين الإيرانيين، السودان أخذت خطوات في الاتجاه نفسه. لعل السؤال هل استطاعت إيران إجبار هذه الدول على تغيير بعض من نهجها السياسي ليصبح أكثر واقعية؟

نقطة الاختلاف الثالثة والأكثر صعوبة تأتي في التمازج بين الأيديولوجي والقومي. هذا البعد مرده أن إيران دولة تزعم أنها "رسالية" ولكن حتى هذا البعد بدا بالاستهلاك لكل من يراقب الواقع الثقافي الإيراني اليوم ــــ هناك تباعد متزايد بين الشعار الديني ورغبة قطاعات واسعة في الحياة المدنية في إيران لعل أفضل مثال عليها الانخفاض الحاد في نسبة النمو السكاني خاصة في طهران. ولكن شرعية الحكم في إيران مبنية على المقوم الأيديولوجي، ولذلك هناك تآكل في النموذج الإيراني وتهديد للمكون السياسي، المملكة ومصر وتركيا على اختلاف تجاربهم التاريخية وسياساتهم الحالية يتضح أنهم ابتعدوا كثيرا عن هذا الدور. ولكن إمعان إيران في التوظيف المذهبي ونزعتها التوسعية وحجمها جر دول المنطقة إلى إعادة البحث عن مرتكزات بدا وكأنها ابتعدت عنها في سلم التطور المدني، ولذلك تقوم إيران بدور سلبي في المنطقة.

بعد جيل ونصف الواضح أن إيران لم تنجح إلا في إثارة الفوضى التي وجدت فيها أرضا خصبة لتردي المشروع التنموي في المنطقة. إيران الثورة لم تنقذ الإيرانيين من الفقر كما وعدت ولم تنجح في جعل إيران مثالا يحتذى به في التطور والتنمية الشاملة. النجاحات الإيرانية محدودة في نقل التقنية لتصنيع السلاح. التحدي أن تأخذ الدول الأخرى المشروع التنموي والتحديثي بجدية أكثر. علينا مراقبة التجربة الإيرانية، هل نحن على عتبة مراجعة داخلية بسبب فشل النهج أم أنها في حالة انتظار لتخفيف العقوبات الاقتصادية؟ لعل الانتخابات البرلمانية المقبلة تعطي مدلولا عن توجهات إيران الداخلية التي قد تكون أكثر أهمية من الخارجية.
&