سمير عطا الله

أول ضحايا الحرب اللبنانية، كان المقهى. في هذا المكان، في وسط المدينة، أو في شارع الحمراء الأنيق، أو قبالة البحر وصخرة الروشة، كان يلتقي الناس من دون مواعيد ومن دون أسئلة ومن دون هويات. اليسار واليمين. الكسالى والمتسكعون وطالبو الراحة بعد عناء يوم طويل. الأدباء والشعراء والفنانون وطالبو القرب منهم. السياسيون الطامحون واليائسون والمتقاعدون. العسكريون بثياب مدنية أو بذكريات التقاعد.


قبل أن تنقسم بيروت إلى شرقية وغربية، كانت «الهورس شو» و«الدولتشي فيتا» و«الروكسي» و«مطعم فيصل»، جناح «هايد بارك كورنر» من الجامعة الأميركية. كان المقهى هو الملجأ الفسيح من البيوت الضيقة، وهو منتدى النقاش وذكريات «السابقين» الذين لم يعد لهم حاضر ولا مستقبل في عالم عربي قائم على الإلغاء. عندما سقطت الروابط، سقط المقهى، ثم سقط لبنان كمنصة للحريّات وملتقى للهويّات ونموذج حضاري لا يريده أحد ويحرج الجميع، بدءًا بإسرائيل.


كان لبنان المقهى، أو الملتقى، نقيضًا للعنصريات. الناس تتجادل من دون أن تتقاتل، فأصبحت تتقاتل من دون أن تتجادل. وكان لهذه الظاهرة الالتقائية أسماء فكرية وسياسية: أكرم الحوراني، أحد زعماء سوريا ونائب عبد الناصر أيام الوحدة، وأمين الحافظ، رئيس الوزراء الراقي الذي أبعد على عجل لكي لا يرسي نموذجًا مختلفًا. ومنح الصلح، الذي لم يعط حتى حقيبة وزارية طوال عمره، لأن نقده كان فضاحًا ومستواه الفكري كان محرجًا. مرة منع الأمن العام اللبناني إقامة إحدى المسرحيات، فجاء ممثلوها إلى «الهورس شو» لتقديمها هناك. المقهى منبر. ولا شك أن عددًا من المخبرين كان يرود تلك المقاهي، لكن الناس كانت قد اعتادت الحرية، وما عداها لم يكن مهمًا. وظل المخبرون المتطوعون، أو المرتزقة، مجرد أشباح بلا أسماء في الزوايا. أما الرسميون منهم فكان من حقهم أن يعرفوا متى تبلغ الحرية درجة التآمر أو الفوضى.


كان المقهى ملتقى بهجًا. البعض يأتيه بعد السينما والبعض بعد المسرح والبعض قبل وبعد أي شيء. صاروا مَعلمًا من معالمه مثل الكراسي أو النوادل، الذين صاروا امتدادًا لعائلات الضيوف. ينصحونك بالصحن اليومي ولا يبخلون بتقييمهم للوضع السياسي. وما يسمعونه منك ينقلونه إلى سواك. ويظهرون دائمًا بمظهر الأكثر إحاطة بالأمور. وغالبًا ما يكون ذلك صحيحًا. أوسع أفقًا من بعض «المحللين».