عاطف الغمري

عندما تتكشف سحابات الغموض،مثيرة غبار الحيرة، على الأحداث المهمة وتبدو كأنها تتشكل من كل المتناقضات في صورة واحدة، عندئذ يتراجع التحليل السياسي المهني، ليفسح مكانه للوثائق التي تأتي من داخل مراكز صناعة هذه الأحداث، فما بالنا وهي تخصّ ما يجري في منطقتنا العربية، وبالتحديد ما يتعلق بمسار العمليات العسكرية للتحالف الدولي ضد تنظيم «داعش».

الآن، تطرح مراكز بحوث ودراسات في الغرب، هذا السؤال:- لماذا لم يحقق التحالف الدولي المكون من 62 دولة، ضربة تقضي على تنظيم «داعش»؟

والسؤال الذي شغل بال كثيرين في عالمنا العربي، لم يعد مطروحاً في بلادنا فقط، بل تحول إلى موضوع للبحث في مراكز الدراسات السياسية في الغرب.

بعضها أعلن عن وجود أدلة موثقة، تكشف عن أن الولايات المتحدة تكيل بمكيالين، فهي تقف متصدرة حرباً على الإرهاب، ومن ناحية أخرى تتيح ل«داعش» وبقية المنظمات الإرهابية، منافذ تفلت منها من ضربة عسكرية قاصمة، وأن هناك تواطؤاً يساعد هذه المنظمات على البقاء والاستمرار، لخدمة أهداف استراتيجية بعيدة المدى في العالم العربي.

وبصرف النظر عن مدى مصداقية هذه الأدلة، إلا أن كونها صادرة عن منظمات بحثية أميركية وأوروبية، لابد أن يدعو إلى تأملها، حتى إن كان هناك من يميل إلى عدم التسليم بصحتها.

ويجذب النظر في حالة تأمل هذه الوثائق، ما قاله أخيراً مستشار رئيس البرلمان العراقي، «سواء كان ما جرى من زحف «داعش» على مدينة الرمادي، بسبب خيانة، أو إهمال، أو مؤامرة إقليمية أو دولية، فإن الناس رأوا بأعينهم طائرات محسوبة على التحالف تلقي أسلحة ل«داعش»: وهذا عمل من أعمال الخيانة». هذه العبارات تعطي قوة دفع للسؤال لماذا لم يحقق التحالف الدولي ضربة تقضي على «داعش»؟

لسنوات طويلة اعتاد مركز Judicial Watch الحصول على وثائق حساسة تخصّ الحكومة الأميركية، عن طريق رفع قضايا، يستفيد عن طريقها من قانون حرية المعلومات. ومنها وثيقة كشفت عن أن الغرب قام فترة طويلة، بدعم إرهابيين، مما كانت نتيجته ظهور تنظيم «داعش» فيما بعد.

وأن هذه الوثيقة كتبت من داخل وكالة المخابرات العسكرية في «البنتاغون» عام 2012، قبل ظهور «داعش» على المسرح العالمي، والوثيقة حددت بالاسم الأطراف التي تقود التمرد في سوريا من جانب منظمات إسلامية وتحرّض عليه وهي: الإخوان المسلمون، وجماعات سلفيّة، وتنظيم القاعدة في بلاد العراق، الذي تطور فيما بعد إلى «داعش».

في الاتجاه نفسه، نشر مركز «غلوبال ريسيرش سنتر» تقارير تقول: إن تقدم متمردي «داعش» والقاعدة في سوريا أخيراً جاء نتيجة دعم أميركي للمتطرفين.

وأن كلاً من تنظيمي «داعش» و«النصرة» التابع للقاعدة، يسيطر عليهما توجه طائفي، ومعهما جماعات تكفيرية متطرفة، تضم أصحاب عقليات ليست معتدلة.

وأنه لا يوجد فرق بين أفكار المتطرفين وبعضهم بالرغم من اختلاف مسمياتهم وانتماءاتهم التنظيمية.

وتقول أيضاً: إن التقدم الذي حققته منظمات متطرفة أخيراً، كان نتيجة برنامج سرّي للمخابرات المركزية، بالتواطؤ مع وكلاء محليين لتوسيع قاعدة الانقسامات داخل المجتمع السوري.

وتصف هذه التقارير هؤلاء المتطرفين بوكلاء أميركا في سوريا.

وأن العلاقة بينهما سهّلت لهم المكاسب الأخيرة على الأرض.

وكان تشارلز ليستر الخبير بمعهد بروكنغز في واشنطن، كتب دراسة في مايو/أيار الماضي قال فيها إن غرف قيادة العمليات الأميركية في جنوب تركيا، شجعت قيام تعاون وثيق مع قيادات الخطوط الأمامية للجهاديين (وهو الوصف الذي تطلقه على الإرهابيين). وفي هذا الإطار فإنها زادت من مستوى المساعدات والمعلومات المخابراتية للارهابيين ، وهو ما أدى إلى تقدم النصرة التابعة للقاعدة في مدينة إدلب السورية، كذلك ذكرت صحيفة الغارديان أن الذي سهل سقوط مدينة جسر الشغور السورية في يد النصرة، كان وصول أول شحنة أسلحة إليها عن طريق تركيا، وبمباركة واشنطن.

وعن هدف تفتيت المجتمعات من الداخل، كتب إليستر كروك العميل السابق بجهاز المخابرات الخارجية البريطاني MIB، يقول إن ما كان متوقعاً عن إيجاد عراق منقسم داخلياً، قد اكتسب دفعة جديدة، نتيجة تقدم «داعش» نحو مدينة الرمادي من دون أن يجد أي مقاومة لها.

وأن صوراً ظهرت لطوابير طويلة من «داعش» تحمل أفرادها ومعداتها سيارات تويوتا، ولاندكروز، قادمة من سوريا عبر طرق صحراوية خالية، متجهة نحو الرمادي، من دون أن تظهر أي طائرة أميركية في هذا المجال الفسيح، وهو ما يحتاج تفسيراً.

وكانت وثيقة سريّة للمخابرات العسكرية بتاريخ أغسطس/آب 2012، ذكرت أن الغرب زاد من تأييده للمعارضة في سوريا، وهو يعلم تماماً أن من يدعمهم هم متطرفون، مما سيمهّد الطريق لظهور تنظيمات متطرفة، وهو ما تحقق بالفعل في ظهور «داعش».

هذه الوثائق على تنوّعها، وما احتوته من معلومات بحثت من داخل الدول الغربية، ألا تدعو للتوقف أمامها، ومراجعة كل ما بنينا حساباتنا على أساسه؟

ولو من قبيل اتخاذ مواقف تتفق مع المصالح الوطنية،وليست دعوة لانقلاب المواقف، بل لتوازنها.

فالسياسة في كل الدول تبنى على قاعدة المصلحة الوطنية.

لكن عندما تتجاوز هذه القاعدة حدود تبادلية المصالح، إلى الانحياز المطلق للذات، بصرف النظر عمّا يصيب مصالح الآخرين من أضرار، فإن الأمر يحتاج إلى التفكير العقلاني في ما يحدث.

إن السياسة الأميركية، بالذات، لديها قاعدة عرفت باسم منتصف الطريق، بمعنى أنها إذا واجهت تهديداً من قوة خارجية لمصالحها، فإنها تحشد قواها لتحجيم هذه القوة، من دون القضاء التام عليها، طالما أن ما تفعله هذه القوة، يخدم بصورة غير مباشرة مصالح ضمن استراتيجيتها العالمية للسياسة الخارجية، ومن المعروف أن تقسيم المنطقة، وتفتيتها مجتمعياً، هو أحد أهداف هذه الاستراتيجية، وهو أمر مسجل في كتابات ودراسات وبحوث، لشخصيات ومراكز سياسية أميركية، من أجل استمرار الإمساك في يدها بزمام تحريك الأحداث، وأيضاً خدمة «إسرائيل».

والواضح الآن أن فكرة التقسيم والتفتيت هي ما تمارسها المنظمات الإرهابية.