عبد الله المدني

يصادف العام الجاري مرور قرن على عودة المهاتما غاندي إلى بلاده من جنوب أفريقيا. والمعروف أنّ شاعر الهند الأكبر «طاغور» هو الذي أطلق عليه لقب «المهاتما» (الروح العظيمة باللغة بالسنسكريتية). والمعروف أن غاندي غادر الهند إلى بريطانيا عام 1882 لدراسة القانون، وهناك عاش كإنسان جاد وملتزم، وسعى إلى الحقيقة والأخلاق والفضيلة من خلال الإطلاع على كتب كثيرة في الفلسفات والعقائد. وبمجرد نيله الإجازة الجامعية لممارسة المحاماة عاد إلى الهند عام 1890 ليتعرض لمشاكل شخصية معطوفة على صلف المسؤولين البريطانيين، ما جعله يعمل في مهنة كتابة العرائض لبعض الوقت، قبل أنْ تأتيه فرصة الانتقال إلى جنوب أفريقيا للعمل مع مؤسسة هندية في «ناتال».

في 1893 وصل إلى جنوب أفريقيا وهو في ريعان شبابه، ليعيش ويعمل وسط الجالية الهندية الكبيرة التي كانت تعيش في إقليم ناتال وتعمل في صناعة التبغ والسكر مع جماعات أخرى مثل التجار العرب المسلمين والمستخدمين الهندوس وبعض المسيحيين الملونين، لكنه اصطدم بما سيبقى طويلا جرحاً غائراً بداخله، بل ما حدد معالم مسيرته. فقد كان يلبس بدلة أوروبية أنيقة ويجلس في الدرجة الأولى داخل أحد القطارات دون أن يدري أنّ القوانين العنصرية تحرم عليه ذلك، فجاءت الشرطة وانتزعته من مقعده بالقوة. هذه الحادثة جعلته يقرر النضال من أجل انتزاع حقوق مواطنيه الهنود والأقليات الأخرى في المساواة والعدالة. ومما أجّج هذه النزعة لديه أنه بمرور الوقت صار أكثر إطلاعاً على الحقائق المفزعة حول ما تقوم به حكومة جنوب أفريقيا من تمييز عنصري، وما تعتزم إصداره من قوانين تحرم الهنود من الاقتراع العام.

نصحه بعض الهنود باللجوء للكفاح المسلح كخيار لانتزاع حقوقهم، لكنه رفض ذلك لأنه كان متأثراً بأفكار الكاتب الأميركي «ديفيد تورو» صاحب فكرة العصيان المدني من جهة، ولأنه من جهة أخرى كان مؤمناً بأن أي نضال مسلح ضد القوة العسكرية الجبارة للإمبراطورية البريطانية عملية مكلفة وغير مجدية.. فكان البديل هو توعية هنود جنوب أفريقيا أولًا من خلال الصحافة. فأسس صحيفة «الرأي الهندي» الأسبوعية عام 1903 لتكون لسان حال مواطنيه. أما خطوته التالية فجاءت في 1906 حينما عقد في جوهانسبيرغ اجتماعاً جماهيرياً للجالية الهندية لتدشين حملة المقاومة السلمية تحت اسم «ساتيا غراها» (القوة الحقيقية)، والتي كان من تبعاتها الزج بغاندي في المعتقل عدة مرات بين عامي 1908 و1913.

مثّل عام 1910 منعطفاً هاماً في حياة غاندي حيث أسس «مزرعة تولستوي»، متأثراً بكتاب تولستوي «الخلاص في أنفسكم»، فوق أرض بمساحة أربعة آلاف متر مربع أهداها له أحد المقربين منه، واستطاع إقناع الكثيرين من أتباعه بأفكار تولستوي، والاكتفاء بحياة بسيطة ومتواضعة، والإقلاع عن تناول الكحول والتبغ واللحوم، وإقامة علاقات صداقة مع الأفراد والجماعات من مختلف الديانات والأعراق، وغير ذلك من معتقداته. وبمرور الوقت ذاع صيت غاندي في جنوب أفريقيا والهند كمحام قدير، وكشخصية ذات مصداقية وهبتْ نفسها للدفاع عن المستضعفين، خصوصاً بعدما رفع العديد من القضايا ضد أشكال التمييز العنصري في جنوب أفريقيا. وهذا أحد أسباب الاستقبال الحاشد الذي لقيه عندما وصل بومباي مع زوجته «كاستوربا» في 1915 قادماً من جنوب أفريقيا، ليقود المقاومة السلمية ضد المستعمر البريطاني في وطنه الأم، وهو محمل بتجربة سياسية ثرية وإطلاع واسع على الديانات والعقائد وأساليب العمل العام.

أما الأنشطة والحملات التي أطلقها في الهند، حتى اغتياله على يد أحد الهندوس المتطرفين في يناير 1948، فكانت كثيرة وذات تأثير في تحقيق طموحاته وطموحات شعبه، وشملت إطلاق أشكال من حركة «ساتياغراها» (قوة الحق)، كل منها لغرض معين مثل: انتزاع حقوق المزارعين الضعفاء وتخفيف الضرائب عنهم، وإعلاء مفهوم الاعتماد على الذات ومقاطعة بضائع ومصانع المستعمر، والمطالبة بجلاء البريطانيين عن الهند. كما شملت أعماله تخليه في 1919 عن وسام «قيصر الهند» الذي منحه له البريطانيون، احتجاجاً على مجزرة قامت بها القوات البريطانية في «جليانوالا باغ» بكشمير بحق المسلمين، وإطلاقه في 1930 لمسيرته الاحتجاجية الأشهر والتي قطع فيها 400 كلم خلال 24 يوماً سيراً على الأقدام إلى «داندي» لاستخراج الملح من البحر، متحدياً قانون حصر استخراج الملح بالبريطانيين، وقيادته في 1932 لحركة استمرت عشرة أشهر، هدد خلالها بالصيام حتى الموت، بهدف الانتصار لطائفة المنبوذين والقضاء على فكرة نبذهم في الانتخابات، ودخوله في 1943 في إضراب عن الطعام لمدة 21 يوماً أثناء إيداعه سجن «قصر آغاخان» في «بونه».