حسين شبكشي

كنت في رحلة خاطفة وعاجلة لمصر للقاء الأصدقاء ومقاومة أجواء الصيف الملتهبة معهم، وكانت فرصة طيبة لأراقب على أرض الواقع ما يشغل بال مصر والمصريين في تحليل آني وسريع وإنْ كان غير علمي ولكنه حتمًا سيمنح المتطلع عيّنة من الذي يبحث عنه.


كانت مصر مشغولة بلهيب الصيف الذي جاء بدرجات حرارة غير مسبوقة أدت، بحسب الأخبار المتواترة، إلى أعداد كثيرة من الوفيات، وكانت مشغولة ببحث الآثار المتوقعة لقناة السويس الجديدة بعد تدشينها وافتتاحها. كذلك كانت هناك حالة لا يمكن إنكارها من الحزن الشديد على رحيل الفنان العملاق نور الشريف بعد صراع غير بسيط مع المرض. أما المناخ الحار فهو حالة عامة وصلت إلى أوروبا وسائر العالم العربي، وأما موضوع قناة السويس فهناك من يرى أنه جيد ومطلوب وتم إنجاز المشروع في زمن قياسي، وهناك فريق يشكك في الاحتياج إلى القناة من وجهة نظر اقتصادية (وهي مسألة ممكن أن ينظر إليها وغيرها بحسب الرأي والتوجه إما بتحفظ وإما بتفاؤل مفرط).
&

لكن في جلسة جمعتني مع بعض الأصدقاء المصريين الذين لهم اهتمامات بالشأن العربي وأبعاده، قام أحدهم متسائلا: لماذا لا يدعم العرب بشار الأسد في «حربه على الإرهاب» وذلك من أجل «حماية سوريا»؟ واستشهد الرجل بتعليقات بعض الإعلاميين على هذا الموضوع، قلت له: لعل أسوأ ما يحصل في موضوع محق وعظيم هو خلط أوراقه، إذ هل من القومية العربية والحرب على الإرهاب أن يتم تأييد حاكم طاغية يبيد شعبه لسنوات طويلة؟ وهل من القومية العربية «السماح» و«القبول» باحتلال ميليشيات طائفية إيرانية أو محسوبة ومسيّرة من إيران تتحكم في سوريا ووضعها وأهلها؟ في هذه الحالة لا فرق بين التغلغل الإيراني والاحتلال الإسرائيلي على الأراضي العربية والسورية منها تحديدًا. وتنهدت بحسرة وأنا أتذكر أن هذا المشهد «الملتبس» على البعض ما هو إلا نموذج من ثقافة «الالتباس» المنتشرة في العالم العربي.


يتفاخر العرب أن العالم الإسلامي يبلغ مليارًا وأربعمائة مليون نسمة منتشرين حول العالم، ثم بالتدقيق ترى المتعصبين منهم من يبدأ تقليص الأعداد ويختصر حتى يوضح أن هناك عددًا محدودًا ممن هم على حق وأن الآخرين «ضلوا» ولا يجوز اعتبارهم «مننا»، ويبدأ كل فريق في سرد مواقفه وأنه يدافع عن القدس ويرغب في تحرير الأقصى، ويغفل تمامًا عن الإشارة إلى أعلام منها مثلاً صلاح الدين الأيوبي لأنه يعتبرهم من الخارجين عن الدين ولا يجوز الاستشهاد بهم على الرغم من كونهم أبطالاً فتحت القدس على أيديهم، وفريق آخر يشكك في عقيدة ابن سينا والخوارزمي بعد أن يكيل المدح والثناء لـ«علماء المسلمين» ويستشهد بإنجازاتهما السابقة للغير.


اليوم نفس عقلية وثقافة الالتباس هذه التي تسمح بأن يكون «مغردًا» مجهولاً على وسيلة التواصل الاجتماعي «تويتر» ويتلقف أخبار ملايين من الناس وبعض وكالات الأنباء ومحطات التلفاز دون التأكد من المصدر ولا الشخص، ولكن هذا المصدر تحول إلى أماني للغير تبث من خلاله ويرغب البعض في تصديقها على أنها حقيقة، أو لمحللين وأصحاب برامج حوارية غريبي الأطوار فيتم متابعتها على أنها حق وحقيقة وهي انعكاس لأزمة الإعلام ومكانته في العالم العربي، فالإعلام سلطة رابعة في الغرب لأنه تجسيد لمفهوم حرية الرأي وسلطة الرقابة كجهة وعين رقابية على الدولة وأدائها بحماية الدستور والقانون، أما في العالم العربي فهذا غير موجود ويصبح الحراك في ما هو مسموح به أو في ما هو غير معقول.


عندما يلتبس كل شيء تغيب الحقيقة، وهذا أكبر الأثمان وأبهظها.