انتصار البناء

«لا تقارن بين الطاولة والكرسي، فليس ثمة وجه شبه بين الاثنين». كانت هذه العبارة من أوائل دروس البلاغة التقليدية التي تلقيناها في موضوع التشبيه. وكانت الأسئلة التي تراودني دائماً: ماذا لو كان الاثنان مصنوعين من الخشب، أليس ذلك وجه شبه؟ أليس الكرسي والطاولة من مكونات الأثاث؟. والمقصود أن للكرسي شكله الخارجي واستخدامه الخاص وللطاولة شكلها الخارجي واستخدامها الخاص ما يجعل الاثنين مختلفين. وبعد أن تقدمنا في دراسة البلاغة تعلمنا في المدارس النقدية الحديثة والحداثية تحديداً، أن الشبه لا يقتصر على القرائن الشكلية أو العقلية، بل هو مرتبط بالحالة الانفعالية والوجدانية للأديب فقد يرى وجه شبه بين متناقضين منشؤه الحالة النفسية له.


وذلك لأن العالم في (الفلسفة المثالية) مرتبط بتصورات عقل الفرد له، وكيف يرى الإنسان هذا الكون ويفسره. وبذلك يمكن عقد تشبيه بين أي عنصرين، لأن بإمكانك خلق قرنية الشبه من تصوراتك الذاتية وليس مما هو موجود فعلاً.


ما وجه الشبه بين جنيف والجامعة العربية؟ جنيف مدينة سويسرية والجامعة العربية منظمة عربية، لا وجه شبه تقليدي إذاً؟ غير أن مدينة جنيف صارت محج (من الحج) الدول العربية المأزومة بالحروب وتحديداً اليمن وسوريا. وصار جزءاً من سيرورة الأحداث انعقاد مؤتمر جنيف 2 أو 3. أما الجامعة العربية فقد هجرها العرب وتعطلت دورة عملها وصارت مكاتبها مقار إدارية. ولم يعد لها مبعوث عربي يتابع حل المشكلات العربية، ولم تعد تشكل لجاناً خاصة تعقد اجتماعاتها للأطراف العربية المتصارعة، فالجميع قد طار إلى جنيف.


وبتفسير منطقي بسيط سيرتبط دور جنيف بدور مكاتب الأمم المتحدة فيها التي تنشط اليوم في القضايا العربية وسيرتبط دور الجامعة العربية بتراجع دور مصر وانشغالها بمشكلاتها الداخلية. وبالتفسير (الفلسفي المثالي) فإن العقل المدبر للأزمات العربية يتصور المنطقة العربية وهي ضعيفة المركزية وخالية من قوة التأثير الذاتية، ويعمل على ربط حركتها بمؤسسات العولمة والأمم المتحدة أهمها، وتحويل مركزها من العواصم العربية المؤثرة مثل القاهرة إلى مركز عالمي آخر هو جنيف. وذلك شكل آخر من أشكال الاستعمار بالهيمنة وإفراغ الوطن العربي من معناه ومحتواه.


ولسنا هنا بصدد الحديث عن تفاصيل الأزمة السورية واليمنية، وليس مهماً الحديث عن دور الأمم المتحدة في حل كلتا الأزمتين. ولكن من يتابع عقد مؤتمرات جنيف سوف يجد مفاوضات طويلة لأشهر بعيدة سعياً لعقد سلسلة مؤتمرات جنيف. وسوف يجد أن جميع المؤتمرين يخرجون من كل سلسلة اجتماع متصلبين على آرائهم السابقة أكثر ويكون رعاة جنيف أكثر تصلباً في عقد السلسلة التي تليها. فالدخول في سلسلة جنيف أصبح هدفاً في حد ذاته، وانشغال الطرفين المتقاتلين بالتحضير لجنيف وحضورهما صار مهمة وجزءاً من بنية الأزمة.


لا جدوى حقيقية من حضور مؤتمرات جنيف إذاً بالنسبة للسوريين واليمنيين، لكنها صارت ميداناً من ميادين الصراع. ولا وجود للجامعة العربية، ولا دور لأي عاصمة عربية في حل الأزمتين دبلوماسياً. فالدول العربية نفسها منقسمة في مواقفها من هذه الأزمات. وكل ذلك هو ضمن التصورات المستقبلية لهذه المنطقة. منطقة منقسمة على نفسها متورطة في مشكلاتها لا تصلح لأن تحل أي أزمة ولا تتمكن من خلق أي حالة تفاهم وتوافق على أي قرار.
حقيقة الأمر أن جنيف يتعاظم دورها كبديل للقاهرة بعد أن تم تدمير بغداد وتخريب دمشق وتهميش الرباط وتغييب الجزائر. وموت الجامعة العربية في القاهرة التي ولدت فيها واشتدت، هو عملية مبرمجة لموت الفاعلية العربية ولجوء العرب إلى البلاط الغربي للتحكيم في قضاياهم. وقبول العرب بتسليم ملفاتهم للأمم المتحدة والاستسلام لجنيف يعد واحدة من المعارك التي انهزموا فيها ويعد إعلاناً عن عجزهم عن التفاهم وعن إفلاسهم من المبادرات.