واشنطن: حينما يتعلق الأمر بالنفط، فإن الولايات المتحدة لا تتفاوض من موقع قوة، كما أن قدرتها منفردة على التأثير في ديناميات الطلب العالمي على النفط هي قدرة محدودة، ولا يمكن تغيير ذلك إلا عبر التنسيق مع كبرى الدول المستهلكة للنفط على مستوى العالم، وأبرزها الصين. أي إن الولايات المتحدة ما لم تتمكن من صياغة سياسة أكثر كفاءة فإنها ستظل أسيرة الخيارات السياسية للدول المنتجة للنفط. هذا ما خلصت إليه دراسة صادرة عن معهد جيمس بيكر الثالث للسياسة العامة The James Baker III Institute for Public Policy بتاريخ 8 من يناير 2009، قام بإعدادها كل من إيمي مايرز جاف Amy Mayers Jaffe وكينيث ب. ميدلوك Kenneth B. Medlock III. . وهذا التوجه كشفت عنه زيارة وزيرة الخارجية الأميركية quot;هيلاري كلينتونquot; الأولى إلى الدول الأسيوية الكبرى المستهلكة للنفط، والتركيز في زياراتها تلك على القضايا المشتركة بينهما.

تنطلق الدراسة التي تحمل عنوان quot;السياسة النفطية للولايات المتحدة: توصيات للإدارة المقبلةquot; أو US Gasoline Policy: Recommendations for the Next Administration من حقيقة أن الولايات المتحدة الأميركية هي أكبر مستهلك للطاقة على مستوى العالم. ويرى كاتباها أن الاستهلاك المتزايد للجازولين (البنزين) تحديدًا هو العامل الأكثر أهمية وراء الاعتماد الأميركي المتزايد على النفط الخارجي.

وفي هذا السياق، تستعرض الدراسة في عجالة الملامح الرئيسة للمشكلات المترتبة على ارتفاع وتذبذب أسعار الجازولين على الصعيد الداخلي في الولايات المتحدة لتصل إلى نتيجة مفادها حتمية تحجيم الطلب الأميركي على الجازولين؛ موضحة ما سيفضي إليه ذلك من مزايا للولايات المتحدة على الصعيدين الداخلي والخارجي، لتنتهي الدراسة بعد ذلك إلى وصايا سبع ترى أن على الإدارة الأميركية المقبلة أخذها في الاعتبار عند صنع السياسة النفطية للولايات المتحدة خلال الفترة المقبلة.

مشكلات ارتفاع وتذبذب أسعار الجازولين داخليًّا

تشير الدراسة في إطار تفسيرها للآثار المرتبة على ارتفاع وتذبذب أسعار الجازولين على الداخل الأميركي إلى أن الأسعار المرتفعة والمتذبذبة للجازولين تعد عبئًا على المواطن الأميركي العادي وكذلك على الأسر والمشروعات الصغيرة لاسيما تلك التي تنتمي للطبقتين الدنيا والمتوسطة. ففي صيف عام 2008 وصل معدل إنفاق هذه الطبقات على الجازولين إلى 15% من إجمالي دخلها. ومع عدم القدرة على التنبؤ بأسعار النفط يصبح من الصعب تحديد مستوى النفقات الشهري للأسر الأميركية وهو ما يؤثر بطبيعة الحال على الاقتصاد الأميركي ككل.

وعلى الرغم من حقيقة أن الولايات المتحدة هي ثالث أكبر منتج للنفط على مستوى العالم، فإن حقول النفط المحلية في الولايات المتحدة لا تفي بالطلب المتزايد على النفط لاسيما وأن إنتاج هذه الحقول في تناقص مستمر منذ سبعينيات القرن العشرين، ونتيجة لذلك الوضع فإن الولايات المتحدة تعتمد على النفط الخارجي أكثر من أي وقت مضى، إذ وصل معدل استيراد الولايات المتحدة إلى 13.5 مليون برميل في اليوم خلال عام 2007.

ويؤدي هذا الاعتماد المتزايد على النفط الخارجي إلى حدوث حالة من العجز في الميزان التجاري للولايات المتحدة؛ ومن ثم الضغط على الدولار، إذ وصلت قيمة استيراد الولايات المتحدة للنفط إلى ما يقارب 40% من قيمة العجز التجاري في عام 2006. وقد خلف العبء المالي الناتج عن تزايد الإنفاق على النفط حالة من التضخم كما خلق عديدًا من التحديات أمام الاقتصاد الأميركي.

تأثير الإدمان الأميركي لنفط الخارج على السياسة الخارجية

تدفع الدراسة باتجاه التأكيد على أن تحجيم الطلب الأميركي على النفط بصفة عامة يحقق للولايات المتحدة عديدًا من المزايا على الصعيد الخارجي، وهو ما يتضح من إشارتها إلى أن تزايد الواردات الأميركية من النفط قد أدى كذلك إلى تقوية الموقف التفاوضي لمنظمة الدولة المنتجة للنفط (الأوبك (OPEC في الأسواق العالمية، والتي قد يكون لبعض أعضائها نوايا عدائية تجاه الولايات المتحدة وحلفائها.

كما تؤكد الدراسة أنه من الثابت أن الولايات المتحدة يمكنها بالتعاون مع الدول الأخرى ذات المعدلات العالية لاستهلاك النفط التأثير على أسعار النفط في الأسواق العالمية؛ عبر التنسيق لاتخاذ إجراءات لتقليل الطلب على النفط، ومن ثم التقليل من القدرة التفاوضية لمنظمة الأوبك OPEC والدول الأعضاء فيها، والتي غالبا ما تحدد أسعار النفط وفقًا للتغيرات في معدلات الطلب على النفط في الأسواق العالمية.

من ناحية أخرى، يحقق تقليل استهلاك الولايات المتحدة من النفط (الجازولين على وجه التحديد) ميزة أخرى ترتبط بالسياسة البيئية لواشنطن؛ فمن فوائد تقليل استهلاك الجازولين الحد من ظاهرة انبعاث غازات الاحتباس الحراري Greenhouse gas emissions ، وهو ما يجعل السياسة المناخية للولايات المتحدة أكثر قوة وفاعلية كما يرى كاتبا الدراسة، فخلال تسعينيات القرن العشرين كان قطاع النقل في الولايات المتحدة أكثر قطاعات الاقتصاد الأميركي إنتاجًا لانبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون السام، كما تتنبأ وزارة الطاقة الأميركية أن ينتج عن قطاع النقل نصف نسبة الزيادة في انبعاث الكربون الأميركية والمتوقع أن تصل نسبتها إلى 40% بحلول عام 2025.

توصيات الدارسة

تُعد التوصيات الواردة بهذه الدراسة هي الهدف الرئيس من إجرائها، ويمكن القول: إنها تمس الجانبين الداخلي والخارجي من السياسة النفطية لواشنطن وقد جاءت على النحو التالي:

أولاً: زيادة مستويات كفاءة الاحتراق الداخلي للوقود Corporate average fuel efficiency (CAFE) إلى 50 ميلاً للجالون. تشير الدراسة إلى أن الكونجرس الأميركي مرر في عام 2007 قانونًا يحدد مستوى كفاءة الاحتراق الداخلي للوقود بـ35 ميلاً للجالون، وهو ما يتوقع أن يؤدي إلى انخفاض مقداره 2.3 مليون برميل يوميًّا بحلول عام 2020. وتدعو الدراسة إلى ضرورة المضي قدمًا في هذا التوجه بحيث تتم زيادة هذه النسبة إلى 50 ميلاً للجالون، وهو ما سيؤدي إلى توفير ما يقرب من 7 مليون برميل يوميًّا في الفترة ذاتها.

ثانيًا: إطلاق مفاوضات تهدف إلى الاتفاق على مستويات عالمية للاحتراق الداخلي للوقود لاسيما بين كُبرى الدول المستهلكة للوقود بحيث يشكل هذا الاتفاق جزءًا من اتفاقية مناخية عالمية. فمن الممكن أن تلعب الولايات المتحدة دورًا إيجابيًّا في إطلاق سياسات بناءة لمرحلة ما بعد اتفاقية كيوتو من خلال دفع منتجي السيارات لاسيما في الهند والصين إلى تحديد حد أدنى لمستويات الاحتراق الداخلي للوقود في كل الدول المنتجة للسيارات. وهو ما سيؤدي في حال تحقيقه إلى تحجيم الطلب الكلي على النفط خلال السنوات العشرين المقبلة، وهو ما سيؤدي أيضًا إلى التقليل من ظاهرة الاحتباس الحراري.

ثالثًا: فرض ضريبة فيدرالية أعلى على استهلاك الجازولين بهدف الحفاظ على مكاسب الحماية. وفي هذا الصدد تقترح الدراسة على الإدارة الأميركية الجديدة محاكاة تجارب بعض الدول الأوروبية في زيادة الضرائب المفروضة على الاستهلاك الكثيف للجازولين، الأمر الذي مكَّن هذه الدول من الحد من تنامي الطلب على الجازولين، كما أن هذه الدول استخدمت عوائد هذه الضرائب في تمويل عديدٍ من البرامج الاجتماعية. وتقترح الدراسة كذلك أن تكون الزيادة في الضرائب المفروضة على الجازولين تدريجية، على نحو يمنح المستهلك الوقت للتكيف من ذلك الوضع عبر إيجاد بدائل مناسبة مثل اللجوء لاستخدام وسائل المواصلات العامة على سبيل المثال.

ومن المتوقع في رأي كاتبي الدراسة أن تؤدي الزيادة في عوائد الضرائب المفروضة على الاستهلاك الكثيف للجازولين إلى إعادة الثقة في الدولار، وذلك لأنها تعكس وجود وتطبيق سياسة مالية أكثر اتزانًا.

رابعًا: الحفاظ على حد أدنى من مخزون الجازولين. توضح الدراسة أن معدل استهلاك الجازولين في الولايات المتحدة الأميركية يزيد في بعض الأوقات عنه في أوقات أخرى. وتعد فصول الصيف والأجازات من مواسم زيادة الاستهلاك. ولمواجهة الزيادة في الاستهلاك خلال هذه المواسم يتم إتباع أحد الحلين: الأول، الاعتماد على الجازولين الذي يتم تخزينه خلال الفترات التي يكون الاستهلاك فيها أقل، أما الآخر، فهو الاستيراد.

وتشير الدراسة إلى الولايات المتحدة قد ركنت إلى الحل الثاني في غالبية الأحوال خلال السنوات الماضية بسبب تزايد الطلب على الجازولين مع انخفاض المخزون منه، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع غير متوقع في الأسعار.

كما تشير الدراسة إلى أن عدم كفاية المخزون من الجازولين قد يضع الولايات المتحدة في مأزق في أوقات الأزمات، إذ اضطرت الولايات المتحدة إلى الاستعارة من مخزون النفط الاستراتيجي الأوروبي في أعقاب الاختلالات التي نتجت عن إعصاري ريتا وكاترينا في عام 2005، وذلك بسبب عدم كفاية ما تحتفظ به الولايات المتحدة من مخزونات نفطية خاصة بها.

ومن المقترحات التي من الممكن أن تكون فعالة في هذا السياق، النص على الاحتفاظ بحد أدنى من مخزون الجازولين (وليس النفط الخام)، كما هو الحال في أوروبا. إذ ترى الدراسة أن تبني مثل هذه السياسة في الولايات المتحدة سوف يؤدي إلى حماية المستهلكين والاقتصاد الأميركي ككل من الآثار السلبية المترتبة على ارتفاع أو تذبذب أسعار الجازولين.

خامسًا: إرسال مبعوث دبلوماسي خاص بالطاقة إلى الصين. حيث تدعو الدراسة إلى قيام الولايات المتحدة بإرسال مبعوثٍ دبلوماسيٍّ رفيعِ المستوى ذي خبرة واسعة في مجال الطاقة إلى بكين بهدف التنسيق ما بين البلدين وإطلاق مبادرات جديدة في مجال الطاقة لاسيما فيما يخص سبل وآليات التعامل مع الدول المنتجة للنفط. وترى الدراسة أن هذا المبعوث يجب أن يكون تابعًا لنائب الرئيس مباشرة، مُذكرة بتجربة الولايات المتحدة في تحقيق تنسيق خاص مع روسيا في مجال الطاقة في تسعينيات القرن العشرين من خلال نائب الرئيس الأميركي آل جورAl Gore ورئيس الوزراء الروسي فيكتور تشيرنوميدينViktor Chernomyrdin آنذاك.

من ناحية أخرى، ترى الدراسة ضرورة أن يتم التعامل مع مثل هذا التنسيق مع الصين باعتباره نواة لتمهيد الطريق أمام تعاون دولي واسع النطاق في المجال البيئي، إذ إنه يفتح الباب أمام إزالة واحدة من العقبات السياسية التي تحول بين تفاعل الولايات المتحدة الإيجابي مع مرحلة ما بعد اتفاقية كيوتو.

سادسًا: زيادة الإنفاق الفيدرالي على التكنولوجيا الحديثة في مجال زيادة كفاءة مصادر الطاقة والبحث عن بدائل لها. تشير الدراسة كذلك إلى أهمية زيادة الإنفاق الفيدرالي في مجال الأبحاث والدراسات التي تهدف إلى تطوير تخزين ونقل الكهرباء، وهو ما قد يسهل التحول إلى مصادر طاقة متجددة بدلاً من الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية، ومنها الجازولين. ولاشك في أن تنويع مصادر الطاقة يزيد من القدرة على الاحتفاظ بمستويات معقولة من الأسعار خلال الاختلالات التي قد تصيب أيًّا من مصادر الوقود، فضلاً عن تحقيق المرونة في مواجهة التذبذبات اليومية في أسعار الوقود.

سابعًا: تجنب السياسات المفرطة التعقيد فيما يخص الوقود بهدف التقليل من الكربون في قطاع النقل، مثل مستوى منخفض من الكربون منبعث من الوقودLow Carbon Fuel Standard (LCFS) . فقد حددت ولاية كاليفورنيا مستويات معينة من الوقود قليل الكربون، وتأمل الولاية أن تتحول على المدى الطويل إلى بدائل وقود منخفضة الكربون بحيث تستخدمها المركبات على مستوى الولاية. الأمر الذي من المتوقع أن يؤدي بمرور الوقت إلى الحد من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون في أجواء الولاية.

إلا أن الدراسة ترى أن إجراءات تحديد مستوى للوقود قليل الكربون (LCFS)لا يمكن أن تؤدي أن تطوير مصادر للطاقة المتجددة. فعلى سبيل المثال لا يمكن لمصافي الوقود التحول إلى استخدام الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح أو غيرها من البدائل قليلة الكربون. أي أن مصافي الوقود لا يمكنها تقليل انبعاثات الكربون إلا من خلال تقليل إنتاجها من الوقود وهو ما قد يهدد بإحداث عجز في الطاقة في البلاد. ومن ثم فالبديل الأفضل من وجهة نظر الدراسة يتمثل في زيادة معدل الاحتراق الداخلي للوقود، إذ إنه يحد من انبعاثات الكربون ولا يشكل أي تهديد لأمن الطاقة.

تختتم الدراسة بالتأكيد على أن الولايات المتحدة لا تتفاوض من موقع قوة فيما يتعلق بالنفط، كما أن قدرتها على التأثير في ديناميات الطلب العالمي على النفط بشكل مباشر هي قدرة محدودة، فعلى الرغم من الانخفاض الأخير في مستويات أسعار الجازولين لا تزال هناك بعض العوامل التي يجب وضعها في الاعتبار في هذا الصدد، فالعوامل الجيوبوليتيكية من الممكن أن تطفو على السطح مرة أخرى لتهدد إمدادات النفط القادمة للولايات المتحدة من الشرق الأوسط، وغرب إفريقيا أو من دول الاتحاد السوفيتي السابق. من ناحية أخرى، هناك التهديدات دائمة ناتجة عن الكوارث الطبيعية كالعواصف والتي من الممكن أن تحطم البنية التحتية لإنتاج أو نقل الجازولين إلى الولايات المتحدة.