تعتبر الملكة اليزابيث الثانية هي رأس الدولة (وأيضا رأس القوات المسلحة)، وبالتالي فأن أي حكومة تشكل في البلاد مهما كان شكلها هي حكومة الملكة، ولا يتم تشكيل أي حكومة ان تطلب الملكة ذلك من الشخص المحدد، ويبدو أن الملكة مطالبة الآن بإنقاذ البلاد من المأزق الذي تمر فيه بعد ان فشل أي من الاحزاب في الحصول على أغلبية مطلقة في البرلمان.

بريطانيا هي إحدى ثلاث دول قائمة في العالم - مع نيوزيلندا وإسرائيل - لا تملك دستورا مكتوبا. ومع هذا فإن نظام الحكم فيها يحمل تسمية laquo;الملكية الدستوريةraquo;.

ما يعنيه هذا باختصار هو أن الملكة اليزابيث الثانية هي رأس الدولة (وأيضا رأس القوات المسلحة). وهذا بدوره يعني أن الحكومة، سواء انبثقت عن أغلبية برلمانية مطلقة أو كانت ائتلافية أو حكومة وحدة وطنية، هي في الواقع حكومة الملكة. وكل هذا بموجب دستور غير مكتوب لكنه متفق عليه تبعا لتقاليد البلاد التاريخية وأعرافها، ولا يحاد عنه لأي سبب كان.

وقد يذكر بعضنا الفيلم السينمائي laquo;الملكةraquo; (The Queen) الذي تؤدي فيه الممثلة هيلين ميرين دور اليزابيث الثانية. في مشهد من هذا الفيلم يأتي توني بلير عقب اكتساح العمال انتخابات 1997 الى قصر باكينغهام ليطلب الى الملكة إذنها لتشكيل الحكومة، كما ينص الدستور غير المكتوب.

وعندما تحين اللحظة، يتقدم بلير الى صاحبة العرش فتشير اليه بالركوع على ركبة واحدة وهو ما يفعله. ثم يخاطبها بقوله: laquo;جلالتك، لقد فاز حزبي بالانتخابات، وقد أتيت الآن طلبا لإذنك بتشكيل الحكومة. فهل...raquo;؟ وتقاطعه الملكة بقولها: laquo;مستر بلير.. أنا من يلقي الأسئلة هنا. الواجب يحتم عليّ كملكة دعوتك لأن تصبح رئيسا للوزراء، وأن تشكل حكومة باسمي..raquo;. وعندما يصمت بلير حائرا، تقول له الملكة ساخرة: laquo;إذا وافقت على ذلك فالعادة هي أن يقول المخاطب: laquo;نعمraquo;!

خلاصة القول إن لا حكومة بدون طلب تشكيلها من الملكة مباشرة. وكل هذا حسن في الظروف العادية.

ماذ لو..؟
ماذا يحدث في ظرف كالذي تمر به بريطانيا حاليا بعيد انتخاباتها العامة الأخيرة؟ المحافضون أصحاب أغلبية الأصوات لكنها ليست أغلبية مطلقة تتيح لزعيمهم تشكيل الحكومة منفردا وأمله الوحيد تآلف مع الليبراليين. العمال فقدوا تفويضهم الشعبي الذي ظلوا يتمتعون به منذ العام 1997 لكن زعيمهم - الذي لا يتمتع بأي تفويض يتعلق برئاسته الوزراء في المقام الأول - يتطلع الى البقاء في السلطة عبر باب الليبراليين نفسه.

ماذ يحدث لو فشل المحافظون والليبراليون في مفاوضاتهم العسيرة بسب اختلافاتهم الآيدولوجية الأساسية؟ وماذ يحدث إذا شكل المحافظون حكومة أقلية لا تقوى على النهوض على قدميها؟ وماذا سيحدث إذا شكل الليبراليون الحكومة مع العمال رغم عجز الحزبين مجتمعين عن الوصول الى الأغلبية المطلقة في البرلمان؟ تتعدد الأسئلة بتعدد المعطيات والسيناريوهات المحتملة في جو من عدم اليقين يعلم الله مداه.

هل بوسع الملكة، باعتبارها رأس الدول، إنقاذ البلاد من الانزلاق في هاوية الفوضى السياسية والاقتصادية بسبب عجز laquo;العمومraquo; عن وقف هذا الانزلاق؟

منفذ غير مباشر
الإجابة هي laquo;لاraquo; قاطعة، وبموجب الدستور غير المكتوب نفسه. وما يمكن قوله بكل اطمئنان هو أن اليقين الوحيد في حالة عدم اليقين هذه هو أن الملكة ستبعد نفسها قدر ما استطاعت عن مجرد التفكير في التدخل لتشكيل حكومة وحدة وطنية أو انتقالية، على سبيل المثال، تساعد على كبح جماح الفوضى.

هذا باختصار ليس شأنها وإنما شأن الساسة، ولا يحق لها التدخل فيه بأي شكل من الأشكال. وهذا رغم انها ظلت تسمي مجلس الوزراء البريطاني laquo;حكومتيraquo; على مدى ما يقرب من 60 عاما طلبت فيها الى 11 من زعماء الأحزاب تشكيل الحكومة.. من ونستون تشيرتشل الى غوردون براون.

ولنذكر هنا أن مهمة رئيس الوزراء الجالس في الأحوال العادية - من وجهة نظر القصر - هي laquo;تقديم المشورة الى صاحبة الجلالة في ما يخص شوون الدولةraquo;. لكنه يصبح، في حال البرلمان المعلق، طرفا ذا مصلحة مباشرة. ولذا فهو بفقد تلقائيا حق إلقاء النصح عليها لأنه ما عاد محايدا.

فإذا وصلت البلاد حالة من الضبابية السياسية بحيث هددت مؤسسات الدولة بما فيها العرش نفسه، أصبح في وسع الملكة تلقي تلك المشورة من أطراف أخرى بدلا من رئيس الوزراء. وهذه الأطراف الأخرى تتمثل تقليديا في كبيري موظفي الخدمة المدنية وهما وزير (مستشار) مجلس الوزراء، ورئيس سكرتارية رئيس الوزراء. وبالإضافة الى هذين المسؤولين يحق للملكة أيضا استشارة عدد من الأكاديميين المرموقين المتخصصين في القانون الدستوري حول نوع العمل الواجب القيام به.

على أن المهمة الحقيقة لكل هؤلاء لا تتصل بتقديم النصح للملكة نفسها في ما يتعلق بتشكيلها الحكومة بنفسها، وإنما بمحاولة التوليف بين آراء الساسة بناء على رغبة الملكة ومساعدتهم على التوصل الى الصيغة الفضلى لتشكيلهم تلك الحكومة.

خلاصة القول هي أن الحكومة البريطانية ربما تكون laquo;حكومة جلالتهاraquo;، لكن جلالتها لا ناقة لها ولا جمل في ما يتعلق بتشكيلها أو بشكلها. فالشعب هو الذي يختار ممثليه في laquo;مجلس العمومraquo;، والعموم هم من تؤول اليهم هذه المهمة. وللملكة أن تسميها laquo;حكومتيraquo; إذا أرادت.. فالأمر سيان!