كان تفجير السفارة الفرنسية في طرابلس أول عمل عدائي يستهدف الغربيين في العاصمة الليبية بعد سقوط القذافي، لكنه ينذر بأن الجهاديين الحانقين من تورط باريس في مالي قرروا نقل عملياتهم الحربية إلى العاصمة، وعدم حصرها في بنغازي، التي تحولت إلى ملتقى عشاق الجهاد.


حذر دبلوماسيون من تزايد خطر الجماعات الإسلامية واستهدافها المصالح الغربية في ليبيا، واضعين ذلك في خانة تداعيات التدخل الفرنسي في مالي، لا سيما بعد الهجوم على سفارة فرنسا في طرابلس الأسبوع الماضي. ويُعد التفجير الذي ألحق بمبنى السفارة أضرارًا جسيمة رد المتطرفين الإسلاميين في ليبيا على قرار باريس، قبل يوم من الهجوم، تمديد مهمة القوات الفرنسية ضد أشقائهم الجهاديين في مالي.
وعلمت صحيفة غارديان البريطانية أن الجماعات الجهادية التي طُردت من معقلها في تمبكتو انتقلت شمالًا بعبور الصحراء الكبرى إلى ليبيا، عن طريق الجزائر والنيجر، وأن هذا أعطى دفعة لنشاط الجماعات الإسلامية المتنامي أصلًا في المنطقة.
ونقلت الصحيفة عن دبلوماسي غربي في طرابلس قوله: quot;هناك علاقات راسخة بين هذه الجماعات في مالي وليبيا، ونحن نعلم بوجود طرق اتصال مؤكدة، وهناك قلق بين الطبقة السياسية هنا من تداعيات ماليquot;.
تشتت جهادي مقلق
تأكدت هذه المخاوف في الأسبوع الماضي، بعد أن فجر مسلحون سيارة مفخخة خارج السفارة الفرنسية، أسفر انفجارها عن إصابة اثنين من الحراس الفرنسيين وطالب ليبي بجروح. وهو أول هجوم يضرب هدفًا غربيًا في العاصمة الليبية منذ انتصار الانتفاضة على نظام القذافي في العام 2011.
وقال الكولونيل كيبا سنغاري، قائد حامية الجيش المالي في تمبكتو: quot;إن الجماعات المسلحة التي نقاتلها تهرب إلى ليبيا، وألقينا القبض على ليبيين في هذه المنطقة، فضلًا عن جزائريين ونيجيريين وفرنسيين ومواطنين أوروبيين آخرينquot;.
وكانت فرنسا أرسلت قوات إلى مالي في كانون الثاني (يناير) الماضي بعد تمرد الحركة الوطنية لتحرير ازواد الطوارقية. وكان وقود هذه الانتفاضة جنود طوارق قاتلوا مع القذافي وفروا جنوبًا بعد سقوط نظامه. ورُفدت صفوفهم لاحقًا بجهاديين من ليبيا وشمال أفريقيا دمروا أضرحة صوفية قديمة في تمبكتو. وتخشى البلدان المغاربية أن يكون التدخل الفرنسي الذي طرد الجهاديين من مدن مالي الشمالية تسبب، من دون قصد، في تعقيد المشاكل التي تواجهها حكومات المنطقة، مع تشتت الوحدات الجهادية وتوزعها على هذه البلدان.
وقال الباحث بيل لورنس من مجموعة الأزمات الدولية quot;إذا عصرتَ بالونًا من جهة فإنه يزداد انتفاخًا في الجهة الأخرى، ولا ريب في أن العمليات الفرنسية في مالي كانت بمثابة عصر البالون باتجاه الجزائر وليبياquot;.
قاعدة الإسلاميين
أكد ماليون من سكان تمبكتو وجود علاقات بين المسلحين الطوارق في شمال مالي وجنوب ليبيا. وقال محمد توري (53 عامًا) إن أعدادًا كبيرة من الطوارق غادروا مالي خلال موسم الجفاف في العام 1973، وأصبح بعضهم ضباطًا في جيش القذافي.
وأشار دبلوماسيون إلى أن الجهاديين يعبرون الصحراء الكبرى للالتحاق بكوادر الإسلاميين في بنغازي ودرنة على ساحل ليبيا الشرقي. وتعرضت مراكز الشرطة في هاتين المدينتين لعمليات تفجير خلال الأيام القليلة الماضية، في إطار نشاط مسلح يهدد بتقويض الديمقراطية الوليدة في ليبيا. وذهب الرئيس التشادي ادريس ديبي إلى أن بنغازي تستضيف الآن معسكرات تدريب للمتمردين التشاديين.
وقال الدكتور بيرني سيب، الباحث المختص بمنطقة الصحراء الكبرى في جامعة برمنغهام البريطانية: quot;هذا منطقي من المنظور الإسلامي، فإذا كنتَ في مالي أفضل شيء يمكن أن تفعله هو أن تشق طريقك عبر النيجر إلى جنوب ليبيا، حيث لا وجود لسيطرة الدولةquot;.
ويشكل شرق ليبيا قاعدة للإسلاميين الذين أشعلوا انتفاضة سحقها القذافي في التسعينات. وعادت وحداتهم إلى الظهور في انتفاضة الربيع العربي قبل عامين. وأصبحت بنغازي مدينة محظورة عمليًا على الأجانب، بعد الهجمات التي استهدفت القنصليات البريطانية والايطالية والتونسية وكنيسة قبطية مصرية، وبعد قتل السفير الأميركي كريس ستيفنز في أيلول (سبتمبر) الماضي عندما اجتاح مسلحون مبنى القنصلية الأميركية. وتنذر عملية التفجير التي شهدتها طرابلس بوصول الإرهاب إلى العاصمة.
تعبئة غير موثوقة
نقلت غارديان عن دبلوماسي في طرابلس قوله: quot;تعاني ليبيا من تداعيات مالي في طريقين، الأول وصول مقاتلين إليها والثاني وجود وحدات تنفذ هجمات دعمًا لأشقائهم في ماليquot;.
لكن ليبيا ليست وحدها من يدفع الثمن. ففي كانون الثاني (يناير) الماضي، هاجم مسلحون من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي مجمع إن أميناس لاستخراج الغاز في الجزائر، وقتلوا 38 رهينة في عملية قالوا إنها رد على التدخل الفرنسي في مالي.
وفي ليبيا نفسها، يعاني المواطنون من انعدام الأمن والاستقرار. وقال رجل الأعمال عماد تليسي وهو يتابع المحققين الفرنسيين وهم يفتشون الأنقاض خارج مبنى السفارة المهجور في طرابلس: quot;هذا لا يبشر بالخير لليبيا، وهو أسوأ رسالة يمكن أن نوجهها إلى العالم، فنحن بحاجة إلى أجانب يأتون لإنعاش مصالحنا التجارية وبناء بلدنا، لكنهم بعد ما حدث سيغادرون إلى غير رجعةquot;.
وما يقيد جهود ليبيا للتعامل مع المتطرفين عدم ثقة كثير من الليبيين بقوى الأمن الليبية، التي رُفد العديد من وحداتها بعناصر أمنية خدمت في عهد القذافي.
وعبأت ليبيا موارد كبيرة لوقف تدفق المقاتلين والسلاح عبر حدودها الجنوبية، معلنة الصحراء برمتها منطقة نار حرة للطائرات التي تراقبها من الجو. وأُنجز في الجنوب حفر خندق طوله نحو 175 كلم عبر الصحراء لمنع المهربين من التسلل إلى ليبيا.
طائرات من دون طيار
لكن خبراء يرون أن ليبيا تواجه مهمة شاقة لأن تأمين هذه الحدود مهمة مستحيلة. وتعهد رئيس الوزراء الليبي علي زيدان بتنظيف بنغازي من الميليشيات، لكنّ كثيرين يتساءلون إن كانت لديه وحدات موثوقة بما فيه الكفاية لإنجاز المهمة.
وكانت واشنطن قدمت في أواخر العام الماضي طائرات من دون طيار، وطائرة مختصة بالحرب الالكترونية، لإسناد القوات الحكومية في ملاحقة الجهاديين والقبض عليهم في بنغازي. وهي تمد طرابلس الآن بمعدات لمراقبة الحدود وتبني قاعدة تستضيف طائرات من دون طيار في النيجر لمراقبة مالي وليبيا منها.
لكنّ لهذه السياسة منتقدين يقولون إن تجربتي أفغانستان والعراق تبيّنان أن العمل العسكري لا يكون مجديًا إلا إذا اقترن بعملية سياسية تستجيب لمصالح جميع قطاعات الشعب، وحرمان المتطرفين من منحهم بيئة حاضنة بين السكان. وقال لورنس من مجموعة الأزمات الدولية إن جمع المعلومات بهذه الطائرات وحدها قد يكون له مردود عكسي، والأولوية يجب أن تُعطى لدعم حكومة شرعية تعبر عن تطلعات مكونات المجتمع الليبيquot;.