المجتمعان العربي والتركي متقاربان في الثقافة والدين والقيم الاجتماعية، لكنهما يفترقان في نظرة عامة إلى المرأة العاملة، حيثلا يزال المجتمع العربي غارقاً في ماضيه، بينما خطت المرأة التركية خطوات ثابتة في ميدان العمل، لأن عملها بالنسبة إليها مسألة وجود.

اسطنبول: دراسة الظواهر الاجتماعية التركية ومحاولة الاستفادة من الايجابي منها من ضروريات المرحلة الراهنة، وربما السبب الرئيسي لذلك هو القرب الكبير بين المجتمع العربي ونظيره التركي، من الناحية الثقافية والقيم الاجتماعية. فقضايا المرأة العربية كلاسيكية ومتكررة دومًا، نادرًا ما يجدّ فيها جديد. يقول الدكتور غسان سلامة، وزير الثقافة اللبناني الاسبق، إن المرأة العربية ما زالت تطرح مشكلاتها بشعارات الماضي، فقد طالب رواد تحرر المرأة بتعليمها، واليوم لم تعد هنالك أمية بين النسوة العرب، فالجامعات العربية امتلأت بالفتيات العربيات، وبالتالي المطلوب تحديث المطالب بما ينسجم مع متغيّرات الحياة. ولاشك في أن ما ذهب اليه سلامة صحيح، فتعليم الفتيات اصبح مكفولًا بل الزاميًا بالعديد من الدول العربية ولكن ما زالت العقدة تكمن في ما بعد التعليم، أي في ميدان العمل، الذي يصطدم مع واقع المجتمع الثقافي وخلفيته الدينية القاسية على المرأة.
غرق في الماضي
أثبتت الاحصائيات السكانية المعاصرة في العديد من دول العالم العربي، وخصوصًا في المشرق العربي، أن اعداد النساء اصبحت اعلى من اعداد الرجال، ولا شك في أن مجتمعاتنا العربية تواجه مشكلة في استثمار طاقاتها البشرية في قطاعات العمل المختلفة. ويرى البعض أن استقدام العمالة الاجنبية المحترفة في مجال الهندسة والطب والتجارة والتسويق والمبيعات والادارة في العديد من دول الخليج العربي لا ينتج من قلة الخبرات بقدر ما ينتج من عزوف قطاعات مجتمعية عديدة عن الخوض في دنيا العمل، وخصوصًا القطاعات النسوية. اما في تركيا، فالوضع مختلف تمامًا. على الرغم من التقارب بالقيم والعادات الشرقية التي تجتمع مع فلكلور تاريخي مشترك وثقافة دينية مشتركة، الا أن المرأة التركية تجد العمل مقدسًا، والمجتمع التركي يتفهم هذا الطرح ويحترمه ويتعامل معه بكل ايجابية، بعيدًا عن خرافات العقل العربي المغرق في الماضي.
والمضايقات التي تتعرض لها العربيات في عالم العمل حقيقة لا يمكن نكرانها، وإن كان البعض يصر على أن هنالك مبالغة في عرضها، في حين يؤكد آخرون أن كل ما يفضح منها هو دون حجم المضايقات الحقيقية، وهذا بلا شك لا يعني سوى أزمة اجتماعية اخلاقية ثقافية، وكذلك عدم تفهم ضرورة اندماج المرأة العاملة بالمجتمع نحو النهوض الاجتماعي المرجو.
مسألة وجود
مليكة (43 عامًا) تملك مطعمًا كبيرًا في منطقة شيشلي بأسطنبول، وتهتم بصنع الحلى السياحية اليدوية في مكتبها قرب مطعمها المكتظ بالسيّاح. قالت إن قبول المرأة التركية في ميادين العمل ليس نتاج قرار حكومي أو نص قانوني ولا نظرة مجتمع، بقدر ما هو متعلق بطريقة حياة وتواتر ثقافة، quot;فحياة الفتاة التركية تنقسم عادة إلى جزئين، الاول وهو معظم العام تقضيه بالدراسة، والثاني في العطلة الصيفية الطويلة حين تتجه للعمل، تمامًا كما الشاب التركيquot;.
وترى مليكة أن توجه الشباب في سن مبكرة للعمل البسيط ليس مربحًا ماديًا بل يمنحهم فرصة التعرف على تفاصيل عديدة، وينمي في داخلهم روح المسؤولية واحترام العمل، والهدف هو اثبات الذات. واشارت إلى أن جميع عمال مطعمها في الصيف هم من الطلاب من الجنسين، بإستثناء الطباخين المحترفين، quot;فالعمل للمرأة وللرجل في تركيا هو حياة وانتماء للمجتمع وبالتالي هو مسألة وجودquot;.
بشرى شابة عشرينية تعمل مديرة لأحد محال الملابس النسائية بأسطنبول، بالرغم من أنها آتية من عائلة ميسورة، لا تحتاج للمال، تقول: quot;لكن العمل ليس مصدرًا للرزق فحسب وانما هو كينونتي، واشعر بوجودي في العمل، فالتعب بالعمل يعطيني احساسًا بالوجود، وبالرغبة في التطور، ويمنحني روح المنافسةquot;. وتعمل الطالبة الجامعية عائشة سناراوغلو بائعة للملابس في أحد المحال التجارية الكبيرة، وترى العمل من مؤسسات كيان الانسان، quot;والمرأة كيان بحاجة لأن يثبت ذاته والموضوع ليس تحدياً بقدر ما هو ضرورة، فالنساء أكثر من نصف عدد السكان، ولو حرم هذا العدد من العمل أو اختصر وجودهن به، سيعني ذلك تراجع كل مؤسسات الدولة وخطوطها الانتاجية، وبالتالي العمل ليس شراكة فحسب بل هو مواطنة ايضًاquot;.
القانون انصفنا
تعتبر اسراء، المحاسبة في إحدى شركات الالبسة، أن القانون المدني التركي أنصف المرأة التركية عندما ساواها قانونيًا مع الرجل، وجعل شهادتها معتبرة قانونيًا كما الرجل وليست منقوصة عن شهادته، quot;كما أن اقرار قانون تحديد الزواج بسيدة واحدة ساهم بدمج المرأة اكثر في مجتمعنا، كما أن الاساس وراء تقبل الجنسين أحدهما للآخر بالعمل يعود إلى اختلاط الجنسين المبكر والمستمر في سنوات الدراسة، فالرجل التركي لن يتعامل بعمله مع نساء جئن من كوكب آخر، بل مع نساء سبق أن تعامل معهن طيلة مراحله الدراسية وبحياته اليومية، وهذا الاختلاط يضمن الاستقرار الاجتماعي quot;.
فعندما أنشأ اتاتورك الجمهورية التركية العلمانية الحديثة في العام 1920 اعتمد على القانون المدني السويسري، ومنح المرأة التركية كافة الحقوق القانونية، لدرجة أن السيدة التركية دخلت البرلمان منتخبة غير معينة قبل 13 سنة من السيدة الفرنسية في ثلاثينيات القرن الماضي.
فكتوريا فتاة روسية تعيش مع صديق تركي في أسطنبول منذ عامين، تقارن بين واقع المرأة العاملة في روسيا وفي تركيا، فتقول إنه مختلف جدًا، quot;فعمل المرأة في تركيا محترم ولكنه اختياري، لكن في روسيا هو اشبه أن يكون بالاجباري، فالكل يعمل رجالًا ونساء، كما أن المرأة الروسية غير العاملة لا تسمى ربة منزل، بل تسمى عاطلة عن العملquot;.
لسن جميعًا مترفات
كوسدا محررة في إحدى المجلات الفنية التركية الأسبوعية قالت إن الاعلام العربي ظلم السيدة التركية بإبرازه فقط نجمات الغناء والسينما والدراما الحسناوات، وما يحيط بهن من اثارة وغنج وابتذال احيانًا.
أضافت: quot;وهذا رسخ في أذهان البعض فكرة أن السيدات التركيات كلهن كنجمات السينما الثريات والمترفات والمولعات بصخب الحياة، ولا شك في أن دخول مسلسلاتنا التركية المدبلجة للعربية إلى المجتمع العربي أنصف التركيات لكن بشكل منقوص، فمعظم المسلسلات تقدم السيدة التركية العاشقة أو الثرية أو الفقيرة، وهنالك اهمال ربما غير متعمد لإبراز دور التركية العاملة والمثقفة الواثقة من نفسهاquot;.
وترد كوسدا ذلك إلى أن العرب ما زالوا يعاملون المرأة كأنها تابعة للرجل، على عكس واقعها في تركيا، حيث هي مساوية للرجل امام القانون والمجتمع.
وجيهان مديرة محل يعمل فيه اكثر من عشرة عاملين، نصفهم من النساء، ترى أن العمل لا يعرف الجنس، quot;بل هو مسألة انسانية يحفز الحياة الكريمة، نثبت من خلاله ذاتنا في هذه الحياةquot;.
وابتسمت جيهان واستدارت تشير الى زوجها الذي يعمل معها قائلة: quot;إنه يعمل أقل منيquot;.
كوموش إبنة جيهان تعمل في محل والديها كموظفة بأجر ثابت، وتقول إن والديها يعاملانها اثناء العمل كما يعاملان باقي الموظفين من الجنسين، quot;وحياتي مقسمة بين الدراسة والعمل في موسم العطلات، لا استطيع العيش بغير أحدهماquot;.