لن يخرج نوري المالكي عن الخط الإيراني، لكنه يتميز اليوم بانفتاحه على سنة العراق، بعدما لمس منهم تململًا كبيرًا وحادًا بسبب الأزمة السورية، بعد اتهامات لحكومة بغداد بدعم الأسد ونظامه، على الرغم من نفيها ذلك.


لندن: في وقت تمارس فيه ايران نفوذها الواسع في سوريا ودول أخرى في منطقة الشرق الأوسط مثل لبنان، لاحظ مراقبون أنها تواجه مقاومة من مصدر لم يتوقعه احد، هو العراق بديمقراطيته المستقطبَة والمتعثرة. فإن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، الذي هرب ذات يوم لاجئًا إلى ايران، أعلن رسميًا على الأقل حياد حكومته تجاه النزاع السوري، في حين أن جارته الشرقية رمت بكل ثقلها وراء نظام الرئيس بشار الأسد. كما أملت عليه الضرورة السياسية أن يقوم أخيرًا بمحاولات جدية لاقامة تحالفات مع قوى سنية معتدلة في العراق. واعتبر مراقبون هذا التوجه بادرة تعاون يتخطى حدود الطائفية في منطقة تشهد استقطابًا طائفيًا متزايدًا. ونقلت صحيفة واشنطن بوست عن مستشار للمالكي طلب عدم ذكر اسمه القول: quot;إن اشقاءنا الإيرانيين لا يعجبهم ذلكquot;.
وكان العراق أول المتأثرين بالحرب الأهلية المستعرة على عتبته الغربية. فشيعته يتركزون في شرق البلاد وجنوبها بمحاذاة ايران التي تمد الأسد بالسلاح والمقاتلين. ويعيش غالبية سنته في الغرب والشمال، لا سيما في محافظتي الانبار ونينوى، بمحاذاة سوريا حيث تتلقى المعارضة ذات الأغلبية السنية الدعم من تركيا ودول خليجية.
نصح سليماني
تجنبت حكومة المالكي، التي تسيطر عليها احزاب شيعية، الانحياز إلى طرف، أو هذا على الأقل ما تقوله في موقفها المعلن. ويخشى العديد من القادة الشيعة العراقيين أن يأتي بعد الأسد نظام معاد، لكنهم أكثر قلقًا من تململ السنة في العراق نفسه. ورغم أن حكومة المالكي غضت الطرف عن شحنات السلاح التي تُنقل جوًا من ايران إلى سوريا عبر الأجواء العراقية، فانها استجابت للضغوط الأميركية ايضا بتفتيش بعض الطائرات الإيرانية والامتناع عن تقديم دعم مباشر. وقال علي الموسوي، المتحدث باسم المالكي، إن الحل العسكري ليس حلًا للنزاع في سوريا. لكن العراق انجر رغمًا عنه بمقاتلين عراقيين مع طرفي النزاع، إذ تحالف فرع تنظيم القاعدة في العراق رسميًا مع جماعات مسلحة متطرفة في سوريا، فيما أرسلت ميليشيات شيعية مدعومة من ايران مقاتلين للدفاع عن نظام الأسد. وامتدت التداعيات إلى داخل العراق الذي عاش أخيرًا اسوأ ثلاثة اشهر منذ خمس سنوات بعدد القتلى في أعمال عنف.
وفي مواجهة هذا الوضع المتفجر، بدا أن المالكي يأخذ النصح من الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس ومسؤول ملف العراق وسوريا في الحرس الثوري الإيراني. فإن ايران تضخ ملايين الدولارات للمرشحين السياسيين الشيعة، وقامت ايضًا بتمويل ميليشيات شيعية وتسليحها وتدريبها. ونقلت واشنطن بوست عن سياسيين عراقيين قولهم ان المعروف للجميع هو أن السفارة الإيرانية مقر للحرس الثوري الإيراني، وأن السفير يرفع تقاريره إلى سليماني.
الحاج قاسم
شجع سليماني عن طريق وسطاء المالكي على القيام بدور المدافع عن الشيعة، بضرب المعارضة السنية واستغلال الانقسامات الطائفية لتأمين قاعدة موحدة من التأييد الشيعي، بحسب مستشار المالكي الذي تحدث لصحيفة واشنطن بوست. وفي نيسان (ابريل) الماضي، اقتحمت قوات أمنية ترتبط بمكتب المالكي مباشرة ساحة اعتصام السنة في قضاء الحويجة وقتلت 50 شخصًا على الأقل. وأطلق الحادث سلسلة من الهجمات والتفجيرات ردًا على الاقتحام مع ما سببه ذلك من زيادة في الاستقطاب الطائفي. وقال مستشار المالكي: quot;لدى الحاج قاسم الكثير من الأشخاص هنا ولديه طرق اتصال عديدةquot;، في اشارة إلى سليماني بلقب ينم عن الاحترام. واضاف: quot;إن السياسة الطائفية تُستخدم من اجل السلطة السياسيةquot;. لكن المشهد السياسي تغير على ما يبدو منذ انتخابات مجالس المحافظات في نيسان (ابريل) وحزيران (يونيو). ولعل الحسابات السياسية الواقعية تدفع المالكي إلى التخفيف من سياسته الطائفية.
وما له اهمية بالغة في هذه الحسابات أن المالكي خسر تأييد قواعد شيعية كانت موحدة وراءه، وخسر ائتلاف دولة القانون بزعامته مواقع في الانتخابات الأخيرة، في حين أن احزابًا منافسة سيطرت على حكومتي محافظة بغداد، العاصمة، ومحافظة البصرة التي تتركز فيها حقول الجنوب النفطية. بالمقابل، ذهبت اكثر من ثلث اصوات الناخبين في محافظة الأنبار السنية إلى احزاب متحالفة مع المالكي، في مؤشر إلى أن المالكي يستطيع أن يقيم شراكات مع قوى سنية معتدلة لتشكيل ائتلاف حاكم. وقال سامي العسكري، وهو مستشار آخر من مستشاري المالكي وعضو في مجلس النواب العراقي: quot;ستكون هناك تسوية سياسية مع قطاع من الطائفة السنيةquot;.
عودة الميليشيات الشيعية
كانت الفترة السابقة شهدت اتخاذ خطوتين باتجاه الاستجابة لمطالب السنة، الأولى تصويت مجلس النواب على قانون جديد في حزيران (يونيو) ينقل المزيد من سلطات الحكومة المركزية إلى المحافظات استجابة لمطلب المحتجين والثانية موافقة حكومة المالكي على مشروع قانون يجيز تعيين الكثير من البعثيين السابقين في الدولة. وقال المحلل السياسي المختص بشؤون العراق كيرك ساويل أن هذا كان تنازلًا كبيرًا. لكن قدرة التحالف الشيعي ـ السني الذي يبنيه المالكي على البقاء تتوقف في نهاية المطاف على عوامل متعددة، لا تمت بصلة إلى السياسة. فالجماعات المسلحة تنشط بصورة متزايدة في العراق، وهجماتها تهدف إلى إحداث شروخ طائفية. من جهة أخرى، عادت الميليشيات الشيعية بعد فترة سبات إلى التعبئة للقتال في سوريا، وهناك دلائل على أنها تتلقى التمويل والتوجيه من فيلق القدس. وقال اقارب افراد في هذه الميليشيات تحدثوا لصحيفة واشنطن بوست إن المقاتلين العراقيين يسافرون إلى سوريا عن طريق ايران عادة، وان جثث القتلى منهم تُعاد من الطريق نفسه. وإذا قررت الميليشيات الشيعية احياء عملياتها في الداخل ايضًا، فإن العراق يمكن أن ينزلق سريعًا إلى دوامة من العنف حتى اشد دموية. ويبدو أن المالكي يحاول كبح جماحها، على الأقل داخل العراق. وأعلنت بعض الميليشيات بينها الكثير من اتباع رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر وميليشيا عصائب اهل الحق القاء السلاح والانخراط في العملية السياسية، رغم انها ارسلت مقاتلين إلى سوريا. واستخدم رئيس الوزراء العراقي وسطاء لإيصال تحذيرات إلى هذه الميليشيات. وقال العسكري: quot;الرسالة واضحة: انتم فصيل سياسي ولا تشاركون في اعمال عنف، وكان ردهم واضحا هو (نحن ملتزمون بذلك)quot;. لكن مسؤولين عراقيين يعترفون بحدود تأثيرهم في هذه الميليشيات. وقال العسكري: quot;نحن لا نشجع على المشاركة في أعمال العنف ولكنهم لا يطلبون إذنًا مناquot;.