يقول الكاهن اليسوعي الهولندي فرانز فان در لوغت رجل الدين المسيحي الأجنبي الوحيد الذي بقي في حمص القديمة إنه حصل على الكثير من الشعب السوري من خيرهم وازدهارهم. مؤكدًا أنه يشارك الشعب السوري ألمه ومشاكله الحالية.


بيروت: اختار الكاهن اليسوعي الهولندي فرانز فان در لوغت البقاء في حمص القديمة رغم الحصار الذي يحوّل الحياة فيها إلى بحث مضنٍ عن الغذاء والامل، وذلك لمساندة السكان الذين يشعر بأنه واحد منهم، بعدما امضى قرابة خمسة عقود في بلادهم.

يترأس الاب فرانز فان در لوغت (75 عامًا) دير الآباء اليسوعيين في حمص القديمة، التي يسيطر عليها مقاتلو المعارضة. وهو الاجنبي ورجل الدين المسيحي الوحيد المتبقي في الاحياء، التي يقيم فيها حاليًا 66 مسيحيًا من اصل اكثر من 60 الفًا قبل بدء النزاع في منتصف آذار/مارس 2011.

يقول الاب فان در لوغت لوكالة فرانس برس عبر سكايب: quot;انا رئيس هذا الدير، كيف اتركه؟ (...) كيف اترك المسيحيين؟، هذا من المستحيلquot;. ويضيف الكاهن المسن، الذي غزا الشيب ما بقي من شعره: quot;ثمة ايضًا سبب مهم جدًا بالنسبة اليّ. انا حصلت على الكثير من الشعب السوري، من خيرهم (...) وازدهارهم. اذا الشعب السوري يتألم حاليًا، أحب أن اشاركهم ألمهم ومشاكلهمquot;.

عزاء وتعاطف
ويضيف بصوته الدافئ ولغته العربية المتقنة quot;احب أن اكون معهم (...)، أن أقدم إليهم بعضًا من التعزية والتواصل والتعاطف، ليقدروا على تحمل هذا الالم الفظيعquot;، متابعًا: quot;هذه هي الاسباب التي تدفعني إلى البقاء حيث اناquot;. وقدم الاب فرانز الى سوريا في العام 1966، بعدما امضى عامين في لبنان يدرس العربية. بعد 48 عامًا، يلمع بريق في عينيه، وهو يتحدث عن شعب quot;طيب وصبورquot;.

ويقول: quot;الشعب السوري لا مثيل له. طيب وصبور، ولديه امكانية أن يعيش بأقل شيءquot;. ويضيف: quot;حاليًا يعيشون بأقل من ذلك... لكن ما اذا لم يعد ثمة شيء متوافر لهم؟، كيف يعيشون؟quot;. وتحاصر القوات النظامية منذ حوالى 600 يوم احياء في مدينة حمص التي سيطرت على معظمها على مراحل خلال السنتين الماضيتين.

وشكلت حمص القديمة بنداً اساسياً في مفاوضات جنيف-2 التي انتهت الجمعة، وجمعت للمرة الاولى ممثلين عن نظام الرئيس بشار الاسد والمعارضة باشراف الامم المتحدة. وتم البحث في سبل ادخال مساعدات انسانية الى الاحياء المحاصرة. الا أن قافلة انسانية تنتظر منذ حوالى عشرة ايام في دمشق الضوء الاخضر من السلطات للدخول الى الأحياء المحاصرة في حمص. وتقول الحكومة السورية إنها على استعداد لاجلاء المدنيين من المدينة قبل ادخال المساعدات، الامر الذي ترفضه المعارضة، مشيرة الى أنها تخشى على المدنيين من القوات النظامية، كما تخشى من تدمير الاحياء تماماً واجتياحها في حال خروج المدنيين منها.

ويبدو الأسى واضحًا في نبرة الاب فان در لوغت حين يروي قصص المعاناة في حمص القديمة. ويقول: quot;ترى شابًا عمره عشرون عاماً يقول انا جائع، لكن لا شيء لديّquot;. ويوضح أن السكان المتبقين في الاحياء المحاصرة، والذين يقارب عددهم ثلاثة آلاف شخص، يستهلكون النباتات وبعض المواد الغذائية القليلة جدًا.

ويضيف: quot;لدينا حاليا القليل القليل من الطعام، لكن بعد اسبوع، اسبوعين، أو ثلاثة... لن يعود لدينا شيء. وجوه الناس في الشارع، كلها ضعيفة ويبدو عليها الاصفرار... الاجسام نحيلة وفقدت قوتها (...) ماذا نفعل؟ نموت من الجوع؟quot;. ويرى الاب فان در لوغت أن quot;مشكلةquot; حمص القديمة لا تقتصر على نقص الغذاء والدواء، بل تتعداه للبحث عن الأمل بحياة طبيعية.

جوع نفسي
ويقول quot;نريد طعاماً ودخول (مساعدات)، لكن نريد الخروج ايضًا. دخول الاكل لا يحل المشكلة. ثمة جوع، لكنّ ثمة جوعاً ايضا الى حياة طبيعيةquot;. ويضيف: quot;الانسان ليس بطنًا فقط، بل هو ايضا قلب يريد أن يرى احبتهquot;. واستضاف دير الآباء اليسوعيين في حمص خلال النزاع سبع عائلات مسلمة امضت فيه خمسة اشهر، قبل أن تغادر المدينة في اولى مراحل الحصار. ويقول: quot;اصعب ما نواجهه حاليًا، هو عدم قدرتنا على مساعدة المحتاجينquot;.

ويضيف quot;انا لا ارى مسلمًا أو مسيحيًا. ارى قبل كل شيء انسانًا. (...) انا الكاهن الوحيد والاجنبي الوحيد. لا اشعر بانني اجنبي، انا عربي مع العربquot;. وتعرضت حمص القديمة لدمار كبير جراء المعارك والقصف، وتضررت العديد من المساجد والكنائس.ويوضح فان در لوغت quot;اذا اراد شخص ما العودة للاقامة في حمص، هو في حاجة الى وقت كثير وعمل كثير واموال كثيرةquot;، مبدياً اعتقاده أن المدينة quot;لا يمكن أن تعيش من جديد الا بعد سنواتquot;.

وخلال المقابلة مع الاب فرانز، انقطع الاتصال ثلاث مرات بسبب فراغ بطارية الكمبيوتر من الطاقة، وانقطاع التيار الكهربائي، ما اضطره للانتقال الى منزل ثانٍ مجاور.

ينتقد الكاهن الهولندي المجتمع الدولي قائلًا quot;اشعر دائمًا بأن المجتمع الدولي في وادٍ ونحن في وادٍ. هم يتحدثون ويجتمعون في مطاعم وفنادق، لكن ما نعيشه هنا بعيد جدًا عما يعيشونه. يتكلمون عنا لكنهم لا يعيشون معناquot;. ولا يتخلى عن اعتداله وهدوئه عندما يطالب الباحثين عن حل للنزاع، الذي اودى بحياة اكثر من 136 الف شخص وهجر الملايين، بأن quot;يحاولوا التكلم انطلاقاً منّا، وليس من مصلحتهمquot;.

ويقول: quot;اعتقد أن المشكلة الاصلية في المفاوضات بين الطرفين هي عدم وجود ثقة (...) طالما الثقة غائبة، لا نصل الى نتيجةquot;.
ويضيف: quot;علينا ان نفترض بوجود الايجابيات لدى الآخر (...) لا يمكن أن نفترض أن الجميع شياطين، ولا نستطيع أن نفترض أن الجميع ملائكةquot;.