يرى السيد عزيز الحاج في مقالة له نشرتها ايلاف بعنوان quot;الديمقراطيات الغربية أمام عواصف المخاطر الداخلية و الخارجيةquot; ان الديمقراطية الغربية مهددة بسبب ما يرى إنه quot; فشل اندماج أبناء الهجرة بالمجتمعات التي تأويهم وتقدم لهم جميع أنواع الخدمات quot;. ثم يضيف سببا آخر يهدد الديمقراطية و هو quot; خطر انقراض السكان الأصليين والقيم الديمقراطية.quot;
و كان السيد عزيز الحاج قد قارن بين كتابين احدهما quot; كيف تنتهي الديمقراطياتquot; لريفيل و الثاني الكتاب الذي تُرجم عنوانه quot; المانيا تنتحرquot; او quot; المانيا تدمر نفسهاquot; أو quot; ألمانيا تلغي ذاتها quot; لزارتسين. الكتاب الاول حذر من المخاطر الخارجية على الديمقراطية متمثلة في الاتحاد السوفييتي و دول المنظومة الاشتراكية السابقة و quot;سياسته التوسعية والقمعيةquot; و رأى الحاج ان اليسار الغربي هو الذي أَبلَسَ امريكا، اي اعطاها صورة شريرة على خلاف صورتها الحقيقية التي هي خلاف ذلك، و هو (أي اليسار الغربي) الذي زكى الاتحاد السوفييتي و كتلته.
إذن فثمة خطران على الديمقراطية الغربية : خطر سابق زال، و خطر قائم الآن، و على الديمقراطية الغربية أن تحصن نفسها ضد الخطر الحالي (المهاجرين و رفضهم الاندماج) كما حصنت نفسها و نجت من الخطر الأول.
بالنسبة للخطر الأول نرى نحن الان بوضوح من الذي اجهز على الآخر، الاتحاد السوفييتي على الديمقراطية الغربية ام العكس هو الذي حصل؟ و يبدو لنا الان بوضوح انه، لا اليسار الاوربي و لا الاتحاد السوفييتي السابق و لا منظومة الدول التي كانت تابعة له قد شكلا خطرا جديا على الوجود الغربي و الديمقراطية اللبرالية، بدليل بقاء الثانية و زوال الاول. لكن خطرا ما كان ضروريا لبقاء الكثير من الانظمة.
اما الخطر الثاني على الديمقراطية الغربية فيتفق السيد عزيز الحاج في سياق تشخصيه مع ما ذهب اليه زاراتسين من انه قائم الآن و يتمثل في الاجانب المقيمين في اوربا و رفضهم الاندماج و انه بانقراض السكان الاصليين الاوربيين سوف تنقرض الديمقراطية.
و يبدو من السياق الجملة ان الديمقراطية مرتبطة بمورث او جين من الجينات، فكما يحمل المواطن الأوربي الملامح الخاصة اي العيون الخضر و الشعر الاشقر فإنه يحمل ايضا جينا ديمقراطيا و بذهابه ستذهب معه. و هذا الامر متوافق مع ما ذهب إليه زارتسين الذي يرى السيد الحاج انه quot;متهم بالعنصريةquot; (سنتعرض لذلك في فصل لاحق). هنا يُصار إلى جعل حامل الديمقراطية ليس تكوينا اجتماعيا ـ تاريخيا بل تكوين بايولوجي خالص.

ما هو السبب في فشل الاندماج؟
ما الذي تعنيه هذه العبارة التي صاغها السيد عزيز الحاج على وجه التحديدquot; فشل اندماج ابناء الهجرة بالمجتمعات الغربية quot;.
ان ما تعنيه هو ان اللوم كله يقع على quot; ابناء الهجرة quot;، حسب تعبير السيد الحاج، في عدم الاندماج. و يزيد السيد الحاج على ذلك بما يفيد الامعان في اللوم و الادانة بما يجعل من هؤلاء ناكري جميل لانهم حسب صياغته قد رفضوا الاندماج رغم ان المجتمعات قد آوتهم، قد قدمت لهم جميع انواع الخدمات. و هكذا حسب كامل السياق لا نجد ما يدفعنا لنقد المجتمعات و الاجهزة الحكومية الغربية في فشل عملية الاندماج فهي كما يُفهم قد قامت بكل ما هو ضروري لغرض ادماج الوافدين و لكن الوافدين هم انفسهم رفضوا هذا الاندماج.
و في الوقت الذي يمارس علماء اجتماع و سياسيون معرفون في اوربا نقدا شديدا و مصيبا لسياسة الاندماج بل أن البعض يذهب إلى أن سياسة اندماج حقيقية غير موجودة، لا يجد السيد الحاج نفسه معنيا بتقصيها او مجرد الاستماع لرأي المهاجرين و خصوصا الجيل الثاني مباشرة و هو كسياسي و باحث معني بتقصي الاسباب و ليس اخضاعها الى موقف منحاز واضح ضد المهاجرين و ابناءهم.
فمجرد تناول الوافدين و القادمين الى اوربا كجسد واحد و تكوين متناسق هو أمر منافٍ للعلم. فالقادمون في الغالب اناسٌ بسطاء يسعون، كل حسب طريقته، إلى حياة افضل، و هم حاملون لثقافات مختلفة و يتحدثون لغات متباينة و هم لا يعرفون ما معنى الاندماج و لا كيفية الوصول اليه، و ليس لهؤلاء موقفٌ موحد و لا يعرف احدهم الاخر. لا أفهم ما الذي ينبغي ان يفعله انسان بسيط قادم من احدى القرى التركية مثلا لكي يندمج؟ هل يذهب الى السلطات ويقول لهم انا اريد الاندماج؟
الاندماج يحتاج الى اجهزة و امكانيات ضخمة و هو بالكامل منوط بالحكومات. اما الجيل الثاني فهم ابناء و بنات الجيل الاول، و قد تربى في كنفه.
حسب قانون الاقامة اللجوء الذي كان نافذا في المانيا في عام 2000 كان ثمة مادة تشير الى حق الحاصل على اللجوء السياسي من الدرجة الاولى (حسب المادة 16 أي) أن يحصل، ضمن اشياء أخرى، على دورة لتعلم اللغة الالمانية ممولة من قبل الجهات المختصة. عدد الذين يحصلون على هذا النوع من اللجوء لا يتجاوز الى 3 ـ 5 % من مجمل طالبي اللجوء. وهذا يعني أن 95 % من طالبي اللجوء لم يكن لهم الحق في دراسة اللغة. ورغم ذلك فإن هذا لا يعني أن الاجانب الممنوحين اللجوء من الدرجة الاولى قد حصلوا على الحق فورا بل ان بعضهم (مثلي) قد كافح من اجل دورة لتعليم اللغة الالمانية بما جعلني مضطرا إلى مراجعة مؤسسات عديدة من اجل الحصول على حقي.

مشاكل الجيل الثاني من المهاجرين
في العام 2006، و كنت حديث القدوم الى المانيا، حظرت افتتاحا لاحد المعارض غنى فيه شاب أغنية و هو يعزف على الكيتار يشتكي فيها من معاناته، و في كل فاصل غنائي كان يختم شكواه بعبارة :لانني اجنبي. اصبت في وقتها بالصدمة، فالشاب مولود في المانيا و هو اشقر و بعيون ملونة و لا يمكن تمييزه عن الالمان و هو يغني و يمثل و يتكلم لغة جميلة فما الذي يدعوه الى الشكوى و لماذا يشعر رغم ولادته في المانيا بأنه غير الماني؟ لم تتح لي الفرصة لكي اسأله و اتحقق من شكواه، و لكنني بعدها تقابلت مع شباب كثيرين يكررون نفس الشكوى بطرق مختلفة.
ان قيام شباب من اصول اجنبية مولودين في بلد اوربي بالشكوى المستمرة و شعورهم بالغبن ينبغي ان لا يستهان به و أن يؤخذ بنظر الاعتبار و يتم التحقق منه و من مسبباته، فإن كانت الشكوى وهماً، اقتضى تبديده و ان كانت مبنية على وقائع و حقائق فينبغي الانتصاف لهم، و من الضار الاستخفاف بشكوى جيل كامل من الاجانب من الذين ولدوا او ترعرعوا في بلدان المهجر.
و يقتضي الامر الذهاب اليهم و جمع الوقائع منهم مباشرة و خصوصا المتعلمين و حملة الشهادات و التحقق فيما اذا كانت المرارات التي يدعونها حقيقية أم وهمية، هل انها تطالهم وحدهم ام انها مشتركة مع ابناء البلد نفسه. كما يترتب على من يريد الخوض في قضية الاندماج أن يقوم بمراجعة القوانين و محاولة معرفة فيما اذا كانت تنطوي على تمييز. مع الاخذ بنظر الاعتبار أن الامر لا يتعلق فقط بالتشريعات و انما بموقف ا جتماعي عام يقفه ابناء البلد الاصلي من الاجانب، و اذا ما كانت السيدة الفرنسية الشاكية من الاجانب التي اوردها السيد الحاج في مقاله مثالا، قد وجدت اذنا صاغية و تعاطفا منه، فإننا إلى جانب مشاركتنا اياه هذا التعاطف، نرى أن علينا كما عليه أن نستمع إلى الجهة المقابلة التي تتوفر على ما لا يحصى من أسباب الشكوى. كما أنه من الضروري، بل قبل كل شيء، التحقق من موقف الاجهزة التنفيذية التي تطبق هذه القوانين، ورغم أن هناك الكثير من المآخذ على القوانين، كما سنشير لاحقا، الا ان تطبيقات ما هو ايجابي فيها يتعرض إلى اعادة تأويل من اجل افراغه من محتواه.
لقد قامت الدول المضيفة و منها المانيا بعمل انساني كبير في استضافة اللاجئين المطاردين في بلدانهم و لكن هذا لا يعني اوتوماتيكيا ان كل شيء سار و يسير على مايرام، و لا يعني العرفان بالجميل القبول بأعمال مضادة او تمييزية، و اذا ما كان الجيل القديم من المهاجرين قد سكت على التجاوزات أن اكتفى بالنقد الهادئ فإن عناصر الرفض قد تتراكم بشكل مدمر لدى الجيل اللاحق مما لا يمكن التنبؤ بعواقبه. و إن علينا اذا ما ارنا ان نرد الجميل ان لا نغمض اعيننا عن المشكلة بل ان نساهم في تشخيصها و العمل على حلها.
إن الجيل الاول من المهاجرين لمختلف الاسباب قد عاني من ظروف اضطهاد سياسي و اقتصادي مركبة و كان ممتنا رغم كل السلبيات للدولة المضيفة مما جعله لا يتابع الاخطاء و التمييز و سوء المعاملة، و كان هذا خطأ في كل الاحوال، على أن الجيل الثاني الذي ولد و ترعرع في بلدان المهجر و اصبح ابناؤه مواطنين، هذا الجيل يطالب بحقوقه كمواطن أسوة بالاخرين من اهل البلد و لا يمكنه ان يغض الطرف عن ادنى اشكل التمييز في المعاملة.

من يهدد الديمقراطية الغربية من الداخل؟
إن السيد عزيز الحاج محق بالحديث عن مخاوف من انقراض السكان الاصليين في اوربا، و لكن ليس باعتبارهم حملة للديمقراطية بل كقوى منتجة، فأوربا تشيخ و يزداد عدد كبار السن باستمرار و يتقلص عدد الشباب بسبب نقص المواليد. وقد حذر خبراء كُثرٌ في ألمانيا مثلا من هذه الظاهرة. و سبب ظاهرة شيخوخة المجتمعات الغربية هو انخفاض نسبة المواليد و كذلك الهجرة الى الخارج و خصوصا الى الولايات المتحدة و كندا و استراليا و غيرها للحصول على فرض افضل.
تعني شيخوخة المجتمع بالكلمة الملموسة ان الاقتصاد سوف يتحمل عبء المتقاعدين و رعايتهم الصحية و هم يتزايدون مقابل نقص الشباب المنتج، أي زيادة النفقات عن مستوى المداخيل و تقلص امكانية النمو الاقتصادي. و قد زاد الطين بله ما هو ايجابي اصلا أي ازدياد معدل الاعمار بمقدار 10 سنوات مما جعل فترة تقاضي التقاعد و متطلبات الرعاية الصحية و الاقامة في دور العجزة اكبر بكثير من السابق، و أضاف اعباء مالية كبيرة على الدولة لصالح اناس لم يعودوا نشطين في مجال الانتاج، و هذا يستلزم باستمرار زيادة الانتاج و زيادة في عدد و نوعية القوى، و هو ما لا يمكن توفيره الا باستقدام مهاجرين.
هناك اذن سببان في نقص السكان في اوربا و المانيا كميا و نوعيا : نقص الولادات ثم الهجرة الى الخارج. و حسب صحيفة (سود دويتشلاند اون لاين) فإن الاحصائيات الرسمية تشير إلى أن عدد المهاجرين الى المانيا من خارجها في عام 2009 بلغ 721 الفا و تصف هذه الاخبار بأنها جيدة، اما ما تصفه بالاخبار السيئة فهو أن عدد المهاجرين الألمان إلى خارج المانيا قد بلغ في نفس السنة 734 الفا. فإذا ما اضفنا الى ذلك النقص في الولادات بما يجعلها لا تتناسب مع الفقدان بسبب الوفيات والشيخوخة فإن نقص السكان سيكون واضحا و جليا و ان المانيا تحتاج الى هجرة اوسع بكثير مما يحصل الآن، و نفس الامر ينطبق على الدول الاسكندنافيه و الدنمارك وبل على كل او معظم دول اروبا.
و هكذا فإن الاوربيون مهددون بالانقراض و يحتاجون الى مهاجرين. و يعود الامر، كما رأينا، الى سببين ليس بينهما ما يتعلق بالاجانب و المهاجرين هما : انصراف الاوربي عن الانجاب و الزواج بسبب تفضيله الحرية بالطريقة التي يفهمها، و الثاني الهجرة و البحث عن فرص افضل بسبب ارتفاع الضرائب و قلة المداخيل مما يجعل العمل في بلدان اخرى ذا افضليات واضحة، و هذا الامران مرتبطان كليا بمشاكل بنيوية في الاقصاد الالماني و الاوربي من جهة و بمشاكل اجتماعية عجزت التشريعات المتعاقبة عن حلها تتعلق بعدم ميل الالمان والاوربيين الى الانجاب و ضعف دور الاسرة و ارتفاع نسبة الطلاق. و هكذا فإن نقص المواليد بين الالمان و الاوربيين و ميلهم للهجرة هو امر متعلق بهم و بنمط اقتصادهم و حياتهم الاجتماعية و لا شأن للمهاجرين به.
إن المانيا و اوربا لا تمتلك غير خيار السماح بالهجرة لا نها تشيخ و تحتاج الى المزيد من الايدي العاملة و لكن المهاجرون لا يندمجون. و اذا ما كنا نتفق مع السيد الحاج على تشخيص المرض اي عدم الاندماج فإننا نختلف معه في تشخيص مسبباته التي تجنب الخوض فيها او اعادها الى خصائص ملازمة و لم يعتبرها، كما هو متوقع ظرفا اجتماعياـ اقتصاديا، كما اننا نرى ان السبب الرئيسي في عدم الاندماج مرتبط بمبادر الدولة و زيادة التخصيصات و تعزيز الحوار لتقليص الشك المتقابل.
و بما ان السيد عزيز الحاج قد طالب بامثلة ملموسة على اشكال التمييز و سوء المعاملة فإننا سوف نكرس قسما من هذا الموضوع لذلك.