قامت حضارة وادي الرافدين على ضفاف نهري دجلة والفرات في بداية الألف الثالث قبل الميلاد حيث نشأت أولى القرى الزراعية القديمة الذي استقر فيها الانسان منذ سبعة الآف سنة و قامت عليها مدن سومر واكد وبابل وأشور. كما اثبتت المكتشفات الأثرية في اور والوركاء وغيرها بان بابل من أقدم المدن التي أسسها السومريون في وادي الرافدين وقد اطلق عليها الاكديون اسم quot;باب الإلهquot;. وقد تألق نجمها الحضاري عند قيام سلالة بابل الأولى(عصر فجر السلالات) التي اسسها الملك البابليquot;سمو- ابمquot; عام 1893ق.م الذي استطاع ضم وتوحيد جميع اطراف العراق اليها.
وتعتبر بابل من أهم مدن وادي الرافدين القديمة التي ازدهرت فيها العلوم والآداب والفنون والعمارة والنظم السياسية والقانونية والاقتصادية. وقد اطلق الاغريق عليها اسم quot;بابلونيا Babilon
و Babilonia واطلق عليها العرب quot;ارض بابلquot; ثم ارض السوادquot;.
وقد حفلت حضارة وادي الرافدين بالكثير من الاحداث والشواهد التاريخية. فالسومريون هم اول من اخترع الكتابة المسمارية وبنى المعابد وأسس المدارس والمكتبات واستخدم الفخار. ومن ذلك الزمن بدأ التاريخ المكتوب للحضارات الانسانية. كما تركوا لنا اثارا حضارية متميزة، فهم أول من استخدم العجلة وأول من سن القوانين، كما في مسلة حمورابي، وأول من وضع أسسا للعلوم وبخاصة في الفلك والرياضيات. كما سبق البابليون أولى المحاولات الفلسفية الجريئة التي ترتبط بتفسير الكون والوجود والحياة. كما اهتم السومريون بالادب والفن والشعر والموسيقى والملاحم والاساطير وفي مقدمتها قصة الخليقة والطوفان وملحمة كلكامش وغيرها.
وتشير النصوص المسمارية وما كتبه المؤرخون الاغريق وخاصة هيرودوت في القرن الخامس الى التقدم الحضاري لمدينة بابل القديمة التي جددها نبوخذ نصر واعتبرت أهم واكبر مدينة انذاكquot; ولا تضاهيها في عظمتها وسعتها مدينة اخرى. وكان نهر الفرات يجري في وسطها وعليه جسر مقام على ركائز من طابوق مغلف بالحجر. وقد تقدمت فيها الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وازدهرت فيها الحضارة وكان من شواهدها العظيمة معبد مردخ العظيم quot;الإيزاكيلاquot; والزقورة quot;أتمينانكيquot;أو برج بابل العظيم. وكان يحيط بالمدينة سور عظيم له ثمانية بوابات حصينة كما كانت بابل مركزا تجاريا عالميا. فبجوار معبد مردخ كانت هناك مواني فيها أرصفة ترسو فيها السفن وشبكة شوارع رئيسية وفرعية متوازية متجهة نحو شارع الموكب المزين بالأسود الملونة مرورا ببوابة عشتار ليصل الى بيت quot;أكيتوquot; الذي يقام فيه سنويا مهرجان الربيع في عيد رأس السنة الجديدة.
احتلال بابل من قبل الفرس
في بدايات الالف الثاني ق.م بنى حمورابي، المشرع العظيم والمصلح الاجتماعي الكبيرالذي عرف بسن quot;مسلة حمورابيquot; أول قانون في العالم، معبد الاله مردخ وشيد برج بابل وبسط سلطته على بلاد الرافدين وحول بابل الى حاضرة عظيمة. غير ان بابل سقطت على ايدي الكاشيين مرة ثم على ايدي الحيثيين مرة اخرى. ولكن نبوخذنصر استطاع الوقوف في وجه العيلاميين وتحرير بابل كلها ثم عودتها الى مجدها في عهد نبوخذنصر الثاني عام 597 ق.م.
وبعد وفاة نبوخذنصر حدثت صراعات حادة على السلطة بين الكلدانيين والآراميين وتعاقب على الحكم فيها اربعة ملوك كان اخرهم نبونيد،الذي سعى عام 556 ق.م الى توحيد القبائل الأرامية وتشكيل دولة موحدة قادرة على صد الخطر القادم من بلاد فارس.غير ان الخلافات الدينية الحادة وانشغال نبونيد بالحرب في شبه الجزيرة العربية وتركه الحكم بيد ابنه بيل شاصر الضعيف ساعد الفرس على احتلال بلاد الرافدين وانهزام الجيش البابلي امام الجيش الفارسي وسقوط مدينة بابل عام 539 ق.م بقيادة كورش دون مقاومة تقريبا.
أعلن كورش ان قواته دخلت بابل بدون قتال وحررت أهلها من ظلم نبونيد، الذي وجه اليه تهمة الاستهجان بآلهة البلاد وازدرائه لها، وأعاد كورش تماثيل الآلهة التي سبق ان رفعها نبونيد من المدن البابلية وأعادها إلى معابدها الأصلية، وسمح للشعوب التي أجبرت على البقاء في بلاد الرافدين بالعودة إلى أوطانها الأصلية. وقد إنتهج الفرس تجاه السكان الأصليين وديانتهم سياسة مخالفة كليا للسياسة التي كان يتبعها البابليون والآشوريون، وساعدهم ذلك كثيرا على بسط نفوذهم على البلدان الواقعة إلى الغرب من بلاد الرافدين.
بعد سيطرته على بابل أبقى كورش شكليا على المملكة البابلية، ولم يجر أي تغيير جوهري في البنية الاجتماعية للبلاد. وأصبحت بابل مقرا من مقرات المملكة الاخمينية. كما لم تشهد الحياة الاقتصادية تغييرات جوهرية تذكر حيث سعى كورش إلى تهيئة ظروف طبيعة للحياة الاقتصادية، وتطوير تجارة التصدير والاستيراد والمحافظة على الوسائل التقليدية لإدارة البلاد. أضف الى ذلك ان حكم كورش لم يعتبر سيطرة أجنبية لأنه استلم السلطة شكليا من يد مردخ، وفق المراسيم المقدسة. ومع ذلك فقد تحولت بلاد بابل من دولة مستقلة إلى ولاية تابعة للدولة الاخمينية وفقدت استقلالها في السياسة الخارجية، في حين أصبحت السلطة العسكرية والإدارية العليا بيد نائب الحاكم الفارسي.
لم يحدث أي تغيير في سياسة الفرس تجاه البابليين خلال تلك الفترة.ولكن حدثت انتفاضة في بابل عند مجيء نبوخذنصر الثالث وكذلك نبوخذنصر الرابع. ولكن الانتفاضتين قمعتا. وللحد من النزاعات الانفصالية أقدم داري الأول على إصلاحات إدارية ومالية مهمة، سمحت بتكوين نظام متين لإدارة شؤون الدولة ومراقبة البلدان المستعمرة ونظام لجبي الضرائب، ووسع ملاك العسكريين. ويبدو ان هذه الإصلاحات انطلقت سنة 518 ق.م. واستمرت عدة سنوات. وقد نتج عنها قيام نظام إداري جديدة في بابل والبلدان المستعمرة الأخرى. ولم تطرأ على هذا النظام أية تغييرات جوهرية حتى نهاية حكم الإخمينيين.
كانت المهام الإدارية والعسكرية في عهد كورش وقمبيز مركزة في يد شخص واحد هو حاكم الولاية ـ المرزبان ـ satrap ـ. وتشير إلى ذلك، على الخصوص، الوثائق المتعلقة بنشاط المرزبان جوبارو في بابل وبلاد ما وراء النهر، حيث كان يجمع بين نائب الحاكم المدني والعسكري. وقام داري بتقليص سلطات المرزبان وذلك بفصله بين مهام المرزبان ومهام السلطات العسكرية. أصبح المرزبان في بابل وفي البلدان التابعة الأخرى موظفا مدنيا يحتل قمة الإدارة ويشرف على تطبيق النظام القضائي و الحياة الاقتصادية للبلاد، ويتابع جباية الضرائب. بعد إصلاحات داري أخذ الفرس يتبؤون المراكز الحساسة في جهاز الدولة وتركزت في أيديهم أهم المراكز المدنية والعسكرية. وأخذوا يعينون كقضاة في مؤسسات المقاطعات البابلية.
خلال عهد كسيرس عرفت بابل تغيرات سياسية مهمة، وخاصة بعد سنة 482 ق.م. ـ حين انتفض البابليون بقيادة بيل شيماني في المرة الأولى وبقيادة شمش ريبا في المرة الثانية. لقد هدمت بابل عن آخرها وهدم معها معبدها الرئيسي الإيساجيل. أما تمثال الإله الأعلى مردخ فقد نقل إلى بلاد فارس. واختتمت هذه الإجراءات بإلغاء المملكة البابلية، التي ظلت قائمة حتى ذلك الوقت ويحكمها ملك الفرس. كان الملك الأخميني حتى ذلك العهد يحمل لقب quot; ملك بابل وملك البلاد quot;. ولكن بعد الملك كسيرس اقتصر اللقب على quot; ملك البلاد quot;. وقد تميز التأريخ اللاحق للدولة الأخمينية بكثرة الاضطرابات وعدم الاستقرار في مختلف الولايات، وكثرة الانقلابات في القصور. كل ذلك أدى إلى إضعاف الحكم المركزي للدولة. في عام 331 ق.م. وهو ما ساعد على احتلال الاسكندر المقدوني بابل عام 323ق.م.