خرج الآلاف من الأهالي في عدد من قرى منطقة القبائل الكبرى في الجزائر إلى الوديان والجبال المجاورة لقراهم وصرخوا عبر مكبرات الصوت (لا للإرهاب، اتقوا الله، و أطلقوا شيخنا الرهينة عندكم) كلماتٌ رددتها الجبال ووصل صداها إلى الإرهابيين المحتمين بأحراشها. اختفى الإرهابيون كالأرانب في جحورها ولم يتجرؤوا على الخروج لمواجهة صوت الحياة وجها لوجه.

الرهينة الذي تحرك من أجل تحريره السكان من قبضة الإرهابيين، شيخٌ بسيط يبلغ من العمر ثلاثة وثمانين عاما، اختطفته الوحوش الآدمية من مزرعته وطالبت بفدية مالية خيالية مقابل إطلاق سراحه وهذا الابتزاز رفضه أقارب الرهينة. عمّي علي، وبحكم تقدمه في السن يعاني من أمراض كثيرة تحتاج إلى عناية كبيرة وإلى جرعات أدوية على مدار الساعة، إلا أنه مايزال رهن الاحتجاز بعد أسبوع من اختطافه.

أهالي منطقة القبائل الكبرى عانوا من ظلم الجماعات المسلحة منذ عام اثنين وتسعين وتستمر معاناتهم إلى اليوم. دفعوا الأموال (الجزية) إلى الإرهابيين وهم صاغرون، واضطروا لمغادرة أراضيهم الزراعية تحت تهديد الكلاشينكوف، لتُصبح مرتعا للمرتزقة الذين اقتاتوا على محاصيلها من الزيتون والخضار واستولوا على دواجنها (غنائم الحرب) وهي مورد الرزق الوحيد للفلاحين في القرى والمناطق النائية.

شهية الإرهابيين انفتحت فاستباحوا أعراض البنات (سبايا الحرب) وذبحوا كل من تسول له نفسه رفض طلباتهم، ومع تطبيق الولايات المتحدة سياسة تجفيف منابع الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من أيلول ndash;سبتمبر، قطعت الدول الراعية للإرهاب والمنظمات الإسلاموية (الخيرية) التمويل عن الجماعات المسلحة في الجزائر فلجأت الأخيرة إلى خطف رجال الأعمال والمطالبة بفديات مالية تصل إلى العشرات من المليارات بالعملة المحلية مقابل إطلاق سراحهم. تحصّنَ رجال الأعمال بالحراسات الأمنية المشددة، فأصبح الفلاحون والبسطاء صيدا سهلا لمن تبنوا إقامة الخلافة الراشدة.

طلب الأهالي الحماية من الدولة فلم يجدوا سوى سلطة حاكمة. قرروا اللجوء والاحتماء بأعلى مرجعية اجتماعية (تارْباعْت، تاجْماعْت) أي الجماعة. تكتلوا وتوحدوا داخلها وقرروا مواجهة الإرهاب بصدور عارية. هذه المرة قرروا الصعود بأنفسهم إلى الجبال لاستئصال الإرهاب وإيصال رسالتهم بطريقة سلمية تذكرنا بالمقاومة السلمية التي قادها المهاتما غاندي ضد الإنجليز. وكانت قوتُهم في وحدة صفوفهم وفي الرسالة النبيلة التي حملوها (إذا كنتم تحبون الموت فموتوا لوحدكم أما نحن فقد خُلقنا لنحيا والإسلام بريء من وحشيتكم المُغلّفة بشعارات الخلافة الراشدة).

أهالي قرى: بوغني، بني منداس، بونوح، نيرميتين، ميشتراس، بني كوفي، أسي يوسف. دخلوا تاريخ الجزائر المعاصر من أوسع الأبواب من خلال هذه المقاومة السلمية التي قادوها. وقد ساروا على خطى أبناء منطقتهم الذين خرجوا في قرى اسناجن، إفليسن، وغيرها، وتمكنوا من استرجاع ابن قريتهم من أيدي الإرهابيين الذين لاذوا بالفرار أمام وحدة الكلمة ونُبلها.

لقد تمكن المقاومون سلميا من اختراق مواقع الإرهابيين المحصنة والوعرة وعثروا على خنادق يحتمون بها واسترجعوا الثياب والمواد الغذائية والأغطية والأفرشة التي استباحها الإرهابيون في مناطقهم. تمكنوا من تحقيق كل هذه المكاسب دون طلقة نار واحدة وحققوا مالم تحقّقه العمليات العسكرية في عدد من المناطق في الجزائر.

انتشار الإرهاب في مجتمعاتنا ماهو إلا حصاد لما غرسناه من السكوت عنه أو التبرير له طوال عقود، وعملية دحر قوى الظلام التي تريد إبقاءنا في جاهلية القرون الوسطى تتطلب التحلي بالشجاعة وأخذ زمام المبادرة وكما نكون يُولّى علينا. وهذه الصورة الحضارية ماهي إلا انعكاس واضح لنضج الوعي الجمعي بعد السنوات الحمراء التي اكتوى بها الجزائريون، وهذه هي الصحوة التي تهابها الجماعات الأصولية كما تخشاها الديكتاتوريات الحاكمة في بلداننا، فمقاومة الإرهاب بالطرق السلمية ستمتدّ حتما إلى مقاومة الفساد السياسي والمالي والأخلاقي لكن عبر مراحل زمنية قد تكون طويلة ومُرهقة كما حدث في أوروبا التي انتصرت على محاكم التفتيش فتحررت فيها الأفكار ونبتت في أرجائها الحضارة وترعرعت لأنها وجدت تربة خصبة لنموها كما يقول المفكر مالك بن نبي. لأن أعتى نظام في العالم لا يستطيع قمع الصوت الموحد للملايين من المقاومين خصوصا وإن كانت مقاومتهم للظلم سلمية ولاتتخذ من العنف وسيلة للتغيير.