المأذون ينتظر خلف الباب
صحيفة (البيان) البغدادية الناطقة باسم حزب الدعوة الإسلامية بقيادة السيد نوري المالكي قالت في افتتاحيتها (العدد 463 في 09 5/ 2010) ما يلي : quot; الإعلان عن التحالف بين ائتلاف دولة القانون والائتلاف الوطني العراقي لتشكيل كتلة برلمانية كبيرة في مجلس النواب، لم يكن قرارا سهلا على الإطلاق وسوف يسجل التاريخ كيف أن الحوارات بين الائتلافين كانت صعبة ومعقدة حتى أنها وصلت في بعض المراحل إلى طريق مسدود.quot;
ما الجديد في هذه الافتتاحية، وعن أي مستور أماطت اللثام؟ لا جديد، على الإطلاق. العراقيون كلهم، وغير العراقيين، أيضا، يعرفون جيدا بوجود (صعوبات وعقد) بين أطراف الائتلاف الجديد/ القديم. والعراقيون يدركون أن هذه الصعوبات لن تحل، حتى بعد الإعلان عن قيام الائتلاف الجديد، لسبب بسيط هو، أن الصعوبات والعقد التي تقول الصحيفة أنها كادت أن تؤدي بالحوار إلى طريق مسدود، ستظل موجودة. بل أن العراقيين يتخوفون أن تؤدي هذه الخلافات،لاحقا، إلى انفراط عقد التحالف الجديد، ومن ثم عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الانتخابات.
وهذه المخاوف ليست تشاؤما في غير محله. فجميع المعطيات التي تراكمت على أرض الواقع العراقي خلال السنوات السابقة، بما تضمنته من اتهامات وانتقادات، و شتائم، متبادلة قاسية، بل وحتى مواجهات مسلحة، تدفع العراقيين للاعتقاد بأن هذا التحالف الذي أعلن عنه، أخيرا، بين قائمة دولة القانون برئاسة السيد نوري المالكي و الائتلاف الوطني هو، زواج مصلحة، ليس إلا، زواج أملته اللحظة الراهنة. ولهذا، فأن المأذون الذي أشرف على عقد النكاح اليوم لن يبرح المكان، وسيظل مرابطا وراء الأبواب، لأنه يعرف أنهم سيحتاجونه لتوقيع عقد الطلاق غدا، هذا إذا قدر لهم الاستعانة بالمأذون، أصلا.
لا شيء مشترك، البتة، يوحد الائتلافين، اللهم إلا محاولة مشتركة لإعادة إنتاج كارثة ما سمى ب( البيت الشيعي) / مرة أخرى.

يستعينون على قضاء( حوائجهم) بهوان العراقيين الشيعة
قبل سقوط النظام البعثي بادرت مجموعة من العراقيين الشيعة الذين كانوا يتواجدون خارج العراق، إلى المناداة (لرفع المظلومية)، والدفاع عن الشيعة في العراق، وتداعوا إلى تكوين جمعيات ومنتديات لتحقيق هذا الغرض. وكان اولاءك السادة يشبهون مرقعة الصوفي، لعدم تناغم أغراضهم وتباين أهدافهم.
الأمر المختل في ذاك (المشروع) هو، ابتعاد أصحابه عن الواقع العراقي الشيعي، وإصرارهم على قراءة هذا الواقع، وتصوير الأمور من خلال أحباطاتهم وخيباتهم الشخصية، والنظر إليها عبر نظاراتهم الشمسية المظللة. كان أولاءك السادة جميعا ينظرون إلى العراقيين الشيعة وكأنهم جالية غريبة أو أجنبية يتواجد أبنائها داخل بلد أسمه العراق، ويتوجب العطف عليهم وتشكيل نقابات وجمعيات تدافع عن حقوقهم إزاء سكان البلد الأصليين، أو أن العراقيين الشيعة كائنات بشرية في طريقها للانقراض، ويتوجب حمايتهم والرأفة بهم، أو أن العراقيين الشيعة مجاميع من الجهلة والرعاع، يعوزهم الوعي وتنقصهم الحيلة، لا يعرفون مصالحهم، وإن عرفوها فأنهم لا يعرفون كيف يذودون عنها.

في الواقع، كان أصحاب ذاك (المشروع) يتحدثون ويتصرفون كأوصياء على العراقيين الشيعة، وينطلقون من رؤيا استعلائية، أستاذوية، أبوية، لكنهم كانوا يعبرون، أيضا، عن هلع لا مبرر له، وعن مخاوف أسطورية على مصائر العراقيين الشيعة، لا توجد إلا في أذهانهم هم. بعد سقوط النظام البعثي نقل هولاء (الأساتذة) فكرتهم الانعزالية تلك إلى العراق، فعملوا كل ما في وسعهم لتأسيس البيت الشيعي، ثم تكلل مسعاهم بتشكيل الائتلاف الموحد الذي خاض انتخابات عام 2005.
الائتلاف الموحد ذاك قال القائمون على تكوينه أنهم يريدونه أن يصبح كتلة برلمانية كبيرة تكون ركيزة لاستقرار الدولة العراقية الحديثة التي ظهرت إلى الوجود عام 2003. لكن هذا الهدف، كما بتنا نعرف جميعا، لم يتحقق، وإنما تحققت الفوضى، ليس فقط بسبب الحرب القذرة التي شنها تنظيم القاعدة وعتاة البعثيين وإنما، أيضا، بسبب تناحر أطراف الائتلاف الشيعي أنفسهم. فقد كان ذاك الائتلاف محاولة لجمع ما لا يجمع: لا برنامج مشترك بين مكوناته، ولا محاولات جادة لتصفية خلافاتهم أيام المعارضة، ولا رؤيا مستقبلية واضحة للأمور.
فماذا كانت النتيجة؟ لم تظهر نتيجة واحدة، وإنما برزت نتيجتان، أحداهما تناقض الثانية، بالكامل. الأولى تمثلت في فوز الائتلاف الموحد، بعد أن منحه العراقيون الشيعة أصواتهم. لكن العراقيين الشيعة (وهذا ما وما لا تريد الاعتراف بت أطراف الائتلاف) لم يمنحوا أصواتهم ل(الائتلاف الموحد) بقدر ما صوتوا لصالح (القضية) الشيعية (الكبرى). أرادوا أن يثبتوا حجمهم ويسجلوا حضورهم ويرفعوا عنهم التهميش التاريخي الذي لحق بهم. ولم يكن أمامهم غير الائتلاف فصوتوا له، وكانوا سيفعلون هذا الأمر، بأي حال من الأحوال، سواء كانت هذه الجهة مجموعة أحزاب، أو حزب واحد، أو مجموعة أشخاص، أو شخص واحد. المهم، أنهم صوتوا (للقضية).
النتيجة الثانية هي التي بدأت تبرز بعد انتخابات عام 2005، وظلت تبرز حتى الانتخابات التشريعية الأخيرة وقبلها انتخابات المحافظات. وهذه النتيجة تناقض الأولى، وتمثلت في عزوف الناخبين الشيعة عن التصويت (كرجل واحد) للائتلاف الموحد، كما فعلوا في المرة الأولى، لأسباب كثيرة. فبالإضافة إلى تقوقع الأحزاب الشيعة داخل صدفة مذهبية، ودفعها العراقيين الشيعة للانكفاء على أنفسهم، وتنازلها، طواعية، عن زعامة البلاد، فأن هذه الأحزاب راحت تتخندق، وتخوض معارك ضارية بينها، ليسا دفاعا عن مصالح العراقيين الشيعة،أبدا، وإنما للاستئثار ب(قيادة) العراقيين الشيعة، وقادت تلك المعارك إلى إراقة دماء شيعية بغزارة. لقد أدرك العراقيون الشيعة، بسوادهم الأعظم، وبمرور الأيام، خطل ذاك المشروع الائتلافي، فراحوا يعيدون ترتيب الأمور على هواهم، أو بالأحرى، راح الواقع العراقي نفسه يعيد ترتيب الأمور على هواه. فقد رأينا كيف انفرط عقد الائتلاف، وكيف سدد الناخبون الشيعة لكمات انتخابية انتقامية قاسية متتالية ضد بعض مكونات الائتلاف، بينما ساندوا مكونات أخرى من الائتلاف نفسه. وكانت الانتخابات الأخيرة تجسيدا لهزيمة فكرة (البيت الشيعي)، من خلال ما يلي:

الجهة الوحيدة من مكونات البيت الشيعي السابق التي فازت بأكثرية أعداد الناخبين الشيعة هي قائمة دولة القانون. ونظن أن الجميع، ما خلا الذين يرفضون رؤية الواقع كما هو، يتفقون على أن الناخبين الشيعة منحوا هذه القائمة ثقتهم، بالضبط لأنهم رأوا أنها خرجت عن طاعة البيت الشيعي، ونأت بنفسها عنه، وقدمت رؤيا وطنية عراقية مغايرة. فقد ظل رئيس القائمة السيد المالكي يردد، طوال حملتيه الانتخابيتين، أنه يريد بناء (بيت) وطني عراقي شامل.

ثانيا، تجلت هزيمة فكرة البيت الشيعي في نسبة الذين لم يصوتوا لمكوناته، في عقر دارهم، أي المحافظات الجنوبية والوسطى، وخصوصا في محافظة العمارة، فقد كانت نسبة المتغيبين في هذه المحافظة، وهي كما يعرف الجميع، أكثر المحافظات العراقية الشيعية تضررا، أعلى النسب في جميع محافظات العراق.
ثالثا، أكثر الشخصيات تحمسا لقيام البيت الشيعي فشلت في الوصول إلى العتبة الانتخابية، وبعض من هولاء وهم قادة أحزاب لم يحصلوا، هم وأحزابهم إلا على مقعد واحد.
رابعا، رغم كل ما رافق الحملة الانتخابية من ضجيج وقرع طبول الحرب وتخويف الناخبين الشيعة ضد القائمة العراقية، إلا أن هذه القائمة نجحت أن تكسر الطوق وتحصل على أصوات داخل أكثر من محافظة واحدة في الجنوب والوسط، وهذا النجاح النسبي يذكرنا بالنجاح المدوي الذي كانت قد حققته قائمة السيد يوسف الحبوبي في عقر دار (البيت الشيعي)، أي كربلاء، خلال انتخابات المحافظات السابقة.

كيف نفسر هذه المعطيات؟
لقد فعل العراقيون الشيعة ذلك لأسباب كثيرة أهمها وارأسها هي، قناعتهم بعدم وجود (بيوت) داخل العراق، إنما يوجد بيت واحد أسمه البيت العراقي يحتل الشيعة فيه موقع الصدارة، أن لم يكن بفضل تفوقهم الديموغرافي، فبفضل كميات الأوكسجين التي يبثونها في كل مسامات الجسد العراقي والتي، إذا قطعت مات الجسد العراقي. ونحن نعني بالشيعة هنا، ليسوا مجاميع من رجال الدين، مهما ارتفعت وعظمت منزلتهم، وليسوا كمجموعة من السياسيين المعممين فقط، وليسوا كبيوتات وعائلات دينية كلاسيكية، ولا مجموعة الأحزاب الدينية الناشطة، فقط، ولا مجموعة من قراء المنابر والروزخونية، فحسب. هذه الأطراف لكل واحد منها مكانته، وله مؤيدوه، وله جذوره داخل المجتمع، وله حظوته واحترامه وله نفوذه، لكن هولاء جميعا ليسوا (كل) الشيعة، إنما (جزء). فالعراقيون الشيعة، بالمعنى الأوسع للتسمية، هم الذين تصل أعدادهم الملايين، المتنوعون المختلفون، الذين تشكلت بمبادرات منهم، تقريبا، جميع الأحزاب السياسية الوطنية منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة. العراقيون الشيعة هم الذين ضحايا لعوامل عديدة ومختلفة، (أحدها) العامل المذهبي. فمثلما العراقيون الشيعة هم ( عبد الزهرة وعبد علي وعبد الحسين/ أسماء شيعية خالصة)، ضحايا الصراع الديني المذهبي، فأن العراقيين الشيعة هم، أيضا، (صوينة وخنيجر وجخوير ومعيدي / أسماء جنوبية، قبل أن تكون شيعية)، ضحايا الصراع الطبقي الاجتماعي، الذين كانوا يواجهون الازدراء والاحتقار من النخب الشيعية والسنية، معا.
لا يكفي أن يكون للشيعة إماما واحدا هو، علي بن أبي طالب، حتى تختفي بينهم الاختلافات الطبقية والسياسية والثقافية والاجتماعية، مثلما لا يكفي أن يكون لعموم المسلمين نبيا واحدا فتزال عنهم الاختلافات، مثلما لا يكفي أن ينتمي العرب إلى عرق واحد لكي يتوحدوا، ولا يكفي أن تتعرض البروليتاريا إلى اضطهاد مشترك حتى يصبح عمال العالم كلهم أخوة. هناك فرق بين اليوتوبيا وبين الواقع.
وهكذا هم العراقيون الشيعة. العراقيون الشيعة هم فاضل الجمالي وصالح جبر، لكن العراقيين الشيعة هم، أيضا، محمد مهدي الجواهري صاحب قصائد (سيحاسبون، وباق وأعمار الطغاة قصار)، وقرينه محمد صالح بحر العلوم صاحب قصيدة (أين حقي). العراقيون الشيعة هم مظفر النواب، و(اصويحب) الذي نعاه النواب، وشيوخ الشرجية الذين قتلوا اصويحب. العراقيون الشيعة هم محمد سعيد الحبوبي وشعلان أبو الجون ونجم البقال وثوار العارضيات، مثلما الشيعة هم الشيوخ الذين خذلوا الثوار وتعاونوا مع الانكليز وقال المهوال الشيعي بحق كل واحد منهم هوسته الشهيرة( فكوله الجنطة وهز ذيله)، وأصبح بعضهم أعضاء في مجلسي النواب والأعيان. والشيعة هم الجندي البسيط حسن سريع وزملاءه من سكان صرائف (العاصمة) و(الميزرة)، لكنهم، أيضا، الوزراء حازم جواد وطالب شبيب ورفاقهم الذين قتلوا حسن سريع. العراقيون الشيعة هم الشيوخ همام حمودي وصلاح العبيدي ومحمد اليعقوبي الذين (تعمموا) بعد أن (تأفندوا/ من الأفندية)، مثلما هم السيد جعفر باقر محمد الصدر الذي (تأفند) بعد أن (تعمم) فاحتضنه الناخبون ومنحوه أصوات لم يمنحوا مثلها لأحد في قائمته إلا لرئيس القائمة. العراقيون الشيعة هم نوري المالكي وعادل عبد المهدي وإبراهيم الجعفري وجعفر الصدر وإياد علاوي، نعم وإياد علاوي.

فكيف يراد لهذا التنوع أن يصبح مجرد (بيت)!؟
السبب الارأس الآخر وراء تراجع فكرة البيت الشيعي هو، أن فكرة (البيت الشيعي) أدرك العراقيون الشيعة تهافتها عندما بدأوا يشهدون، ربما لأول مرة في تاريخهم، معارك شيعية - شيعية، وأنهار دم بدأت تسيل جراءها. ولن يغيب عن ذاكرة العراقيين الشيعة أن أولى قطرات دام سالت في العراق، عشية سقوط النظام البعثي، هي تلك التي سالت داخل أقدس مكان للشيعة، داخل الروضة الحيدرية، في قتال بين الشيعي عبد المجيد الخوئي وبين (أشقائه) الشيعة (لا يهمنا، هنا، أن نعرف الأسباب، أو مع من كان الحق). ثم كرت السبحة، فسالت دماء أكثر غزارة في أحداث الزركة عام 2007. ثم بين الصدريين والبدريين، ثم في صولة الفرسان في البصرة.
أما أقسى عمليات التشهير والتسقيط، وأقذع أنواع المهاجاة، والمهاترة، والمنازعة، والمنافرة التي شهدها العراق الجديد، فهي تلك التي دارت تحت قبة البرلمان، قبل أشهر من الآن، وليس قبل قرون، بين (أشقاء) (البيت الشيعي) أنفسهم.
السبب الثالث الذي جعل العراقيين الشيعة يشيحون بوجوههم عن (البيت الشيعي) هو، تلك الصورة الوسخة التي ظهر عليها العراقيون الشيعة خلال حكم (أبناء البيت الشيعي). فقد ظهر العراقيون الشيعة في عيون العالم، ولأول مرة في تاريخهم القديم والمعاصر، كسراق للمال العام، ومرتشين، وأنصاف أميين، ومهربي نفط الشعب، وعاقدين لصفقات تجارية فاسدة، ومتهمين بقتل الأبرياء، لا يمتهنون إلا جلد الذات، ولا يحسنون الدفاع عن المصالح العليا لشعبهم العراقي، ولا يجدون مفاتيح حل مشاكل بلادهم إلا عند الأجنبي.
السبب الرابع هو بروز فوارق طبقية/ اجتماعية قاتلة، لأول مرة في تاريخ العراقيين الشيعة، قسمتهم إلى صنفين. الأولون هم الأقلية أو الصفوة أو النخبة أو المنتقون أو شيعة (البيت الشيعي) الذين استأثروا بالجاه والمال والسلطة، والنوع الآخر هم الأكثرية، هم (الرأسمال) الذي تاجر به أصحاب البيت الشيعي، أي سواد الشيعة الذين ما زالوا يعيشون تحت خط الفقر، ويضطرون للتفريط بعزتهم وكرامتهم للحصول على وظيفة شرطي، وقد لا يحصلون عليها.

هذه الصورة السوداء، وهي واقعية وحقيقية، إنما ساهم في رسمها مهندسو (البيت الشيعي) بسبب رؤيتهم وفلسفتهم الانتقائيتين، وبسبب ضيق أفقهم وميولهم الانعزالية، وأنانيتهم. وها هم يريدون إعادة إنتاجها من جديد.


يتبع: كاد المالكي أن يصبح زعيما وطنيا لو أنه نطق جملة واحدة.