وعندما نقول الفكر الإقصائي في الوهابية، فإننا نثبت وجود فكر آخر عقلاني في الوهابية، لا يعادي المرأة، ولا يُشرّعن الإرهاب، ولا يكفر الحكام والمسلمين، ولا يكفر المجتمع أو يرفض معالمه المدنية.
والفكر الإقصائي في الوهابية بدأ في الظهور العلني عام (1399للهجرة ndash; 1979 للميلاد). وقام على عدة أسس:
أولا: التمسك بالماضي، وإحياءه، وبعثه من جديد، دون إتاحة فرص الاجتهاد التي تساعد على التوافق بين مقولات الماضي ومتغيرات الزمن.
ثانيا: التشدد والتطرف والانغلاق في أمور الدين والدنيا، وهذا انعكاس للحياة الفقيرة الجافة الخشنة التي كان يحياها أصحاب هذا الفكر.
ثالثا: التعصب والاستعلاء الديني، وادعاء أصحاب هذا الفكر بأنهم هم وحدهم المسلمون، وما عداهم كفار. وهذا النوع من التفكير والاعتقاد يعوضهم عن الإحساس بالتخلف الإنساني، والدونية الحضارية.
رابعا: رفض المجتمع ورفض كل معالمه المدنية، بحجة أن هذه المعالم تفشي الفساد والرذيلة، وتبتعد بالمجتمع عن الصراط المستقيم.
خامسا: رفض كل منتجات الحضارة الحديثة، فاللاسلكي عفريت، والدراجة الهوائية حصان إبليس، والراديو والهاتف من أنواع السحر التي اخترعها الشيطان ليضلل المسلمين عن دينهم.
ولذلك اعتزل أصحاب هذا الفكر ومريديه، مجتمعاتهم، وهجروا أهاليهم، وقصروا أثوابهم، وحفوا شواربهم، وأطلقوا لحاهم، واستخدموا العيدان لتنظيف أسنانهم، وركبوا الدواب بدل السيارات، واستعاضوا عن الكهرباء بالفتيل والسراج، وحرّموا على أنفسهم وعلى المجتمع سماع الأغاني والموسيقى.
وهذا السلوك الذي سلكه دعاة هذا الفكر هو رد فعل طبيعي، للذين يعيشون في حالة مجتمعية متخلفة، وفي عزلة حضارية، ويشعرون بعجزهم عن اللحاق بالركب العلمي والإنساني، وبعجزهم عن تطوير واقعهم وتحسينه، فينصرفوا إلى الماضي يعيشون فيه، ويغلقون أبوابه عليهم.
سادسا: التكفير والجهاد، فقد كفر هؤلاء كل الحكام، وكفروا كل المسلمين الذين لا يعتنقون مفهومهم للإسلام، وقالوا بوجوب الجهاد ضدهم من أجل أعلاء هذه المبادئ الدينية التي اعتنقوها.
ومبدأ تكفير المسلمين والجهاد ضدهم، يستجيب لنزعة هؤلاء في الغزو، الذي يحقق لهم المغانم والمكاسب، والسلب والنهب، وسبي النساء والبنات.
سابعا: الموقف من المرأة، موقف شديد العداء والاحتقار لها، فهم يقولون إن المرأة بنصف عقل، وإنها كالكلب الأسود والحمار تقطع الصلاة، وإنها تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان. وإن الشيطان إذا يئس من أحد أتاه من قبل النساء.
وقد نحل أعداء المرأة بهذا الخصوص أحاديث كثيرة نسبوها للرسول (ص)، وما كان للرسول (ص) أن يذم المرأة ويحتقرها، وهو الذي أحب النساء وتزوج (12) اثنتا عشر امرأة، عدا اللواتي تزوجهن ولم يدخل عليهن، أو اللواتي وهبن أنفسهن له، أو عرضن أنفسهن عليه.
وهذا الموقف من المرأة هو نتيجة للشعور بالدونية، ونتيجة للكبت المرضي الذي يعانون منه، ولذلك نراهم ينادون المرأة (يا هيش). ويستخدمون كلمات وألفاظا مثل (الوطء) ليشعروا بتفوقهم وعلو شأنهم. (وطئ الشيء = داسه بقدمه- انظر القاموس).
يتبنى هذا الفكر الإقصائي، العنف والإرهاب والتكفير كوسيلة وحيدة لتحقيق أغراض أصحابه. وأصحابه يسعون جاهدين للوصول إلى السلطة، غير آبهين بالوسائل التي يستخدمونها لتحقيق مبتغاهم.
بدأ أصحاب هذا الفكر في الظهور العلني كما أسلفنا، عام (1399 للهجرة- 1979 للميلاد) بقيادة (جهيمان بن محمد بن سيف العتيبي) الذي درس في جامعتي مكة المكرمة والمدينة المنورة.
وصهره (محمد بن عبد الله القحطاني) الذي كان- كما قيل- أحد تلامذة الشيخ عبد العزيز بن باز.
وقصة هذه الجماعة معروفة، فقد دخلوا المسجد الحرام فجر غرة محرم عام (1400 للهجرة- 1980للميلاد). وعقب صلاة الفجر أعلنوا للناس نبأ المهدي المنتظر، وفراره من quot;أعداء اللهquot; واعتصامه في المسجد الحرام..
وقدم جهيمان صهره محمد بن عبد الله القحطاني على أنه المهدي المنتظر، ومجدد هذا الدين، في بداية هذا القرن الهجري الجديد!
ثم استولوا على المسجد الحرام واحتجزوا المصلين لمدة ثلاثة أيام.
وحين قتل القحطاني (الذي ادعى أنه المهدي المنتظر) تبددت أوهام الجماعة، واستسلم لرجال الأمن من بقي منهم على قيد الحياة.
لم ينتهِ هذا الفكر الإقصائي، ولم ينتهِ أصحابه بمقتل جهيمان والقحطاني، فما أن مرت بضعة أعوام حتى ظهر جهيمان آخر، باسم آخر هو (أسامة بن لادن) الذي حمل من جديد لواء هذا الفكر الإقصائي. فالتف حوله الذين التفوا حول جهيمان، واعتنق عقيدته الذين اعتنقوا عقيدة جهيمان وفكره.
وكجهيمان، كفّر بن لادن الحكام، والمسلمين، والمجتمع، والعالم أجمع، وأعلن الحرب عليهم. وجعل العالم كله ينظر إلينا كقتلة وإرهابيين ومتخلفين. وها هو يعود مجددا إلى السعودية متخفيا خلف النساء اللواتي يحتقرهن ويضطهدهن (أم رباب)، ويوقظ خلاياه النائمة لتمارس الخطف والاغتيالات.
وكان الأحرى به- لو أنه يؤمن بالشعارات التي يرفعها- أن يقاتل حتى يُقتل، وينال الحوريات اللواتي يعد الشباب بهن، لا أن يختبئ في جحر، ويتهالك على الحياة الدنيا، ويعض عليها بنواجذه، ويهرب أولاده وزوجاته خارج أفغانستان.