من مفكرة سفير عربي في اليابان

بعد أن انهار الاتحاد السوفيتي، افترض بعض مفكرو الغرب، بأن تاريخ العالم قد انتهى، بعد أن انهزمت الشيوعية، وانتصر الغرب برأسماليته الفائقة وبديمقراطيته اللبرالية، ولم يعد أمام دول العالم، لتحقيق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية، إلا الالتزام بهذه الرأسمالية، بفتح أسواقها للمنتجات والاستثمارات الأجنبية، وتحريرها من دكتاتورية أنظمة الدولة وقوانينها، وترك اليد الخفية لآدم سميث لتنظيمها. كما على هذه الدول أن تنشر مفاهيم الديمقراطية اللبرالية للحرية الفردية وحقوق الإنسان، وتشكيل برلماناتها المنتخبة، ومؤسساتها القضائية المنفصلة، لينتهي العالم بتكنولوجية الغرب، وبحداثته، وبديمقراطيته، لقرية كونية صغيرة، تضم حضارة عالمية متناغمة، وبذلك ينتهي التاريخ. والسؤال لعزيزي القارئ: هل فعلا ستهيئ تكنولوجية الغرب ورأسماليته وديمقراطيته اللبرالية لحضارة عالمية؟ وكيف ستشارك منطقة الشرق الأوسط في هذه الحضارة؟ وهل ستحتاج للحداثة؟ وهل ممكن تحقيق الحداثة بدون الغربنة؟ وهل فعلا تعني الحداثة فرض quot;العلمانيةquot; ورفض الدين؟
اختلفت توقعات مفكرو الغرب حول التغيرات الجغرافية والسياسية القادمة في العالم، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وانتهاء الحرب الباردة. فتوقع البروفيسور فرانسيس فوكوياما أن ينتهي تاريخ العالم، ويتوحد تحت راية العولمة، بانتشار رأسمالية السوق الحرة، وديمقراطية اللبرالية الغربية. وقد خالفه في ذلك البروفيسور صاميول هنتنجتون، أستاذ العلوم السياسية السابق بجامعة هارفارد، بتوقعه بأن تستبدل الغربنة بالفكر الديني، بعد انتهاء صراع أيديولوجيات العلمانية للحرب الباردة، فلذلك من الضروري فهم حضارات العالم ودياناته للتعامل مع التغيرات والصراعات المستقبلية. وقد أدت أفكار هنتنجتون، التي ناقشها في محاضرة عام 1992 وعرضها في كتابه صراع الحضارات، لحوارات علمية وسياسية متباينة، وقد نحتاج لفهم أفكار هذا الكتاب، الذي أعتبره هنري كيسنجر أهم كتاب صدر بعد الحرب الباردة، والذي يملئ المكتبات اليابانية حتى اليوم.
بدأ هنتنجتون نقاشه بالقول: يعتقد البعض بأننا نشهد بزوغ حضارة عالمية، توافق ثقافي عام للبشرية بزيادة قبول قيم وعقائد وممارسات ومؤسسات مشتركة، ومع أن البشرية تتشارك بقيم ومؤسسات محددة، كإثم القتل وأهمية العائلة، ولكن لا تلقي هذه المشاركة الضوء على التاريخ نفسه، فالتاريخ شمولية التغير الدائم للسلوك البشري. ويمكن استخدام الحضارة العالمية كتعبير يجمع بين المجتمعات المتحضرة، وخير مثل لذلك ثقافة المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس، التي تجمع الكثير من قيادات العالم ومؤسساته وشركاته، وتؤمن بالثقافة الفردية واقتصاد السوق والديمقراطية السياسية، ولكن كم من شعوب العالم تشارك مفاهيم هذه الثقافة؟ فخارج دول الغرب، لا يزيد عدد المشاركين في هذه الثقافة عن خمسين مليون، أي 1% من نسبة سكان العالم، فذلك أقل بكثير من الثقافة العالمية، فثقافة دافوس الذهنية متواجدة، على مستوى المثقفين، فجذورها سطحية في الكثير من المجتمعات، ومشكوك فيها حتى إن كانت تحتضن ثقافة أخلاقية عالمية، أم تضع قيم متميزة لثقافة فكرية عامة.
وقد اندفع البعض، خطئا، لفكرة الحضارة العالمية بسبب توسع الانتشار العالمي لنمط الاستهلاك الغربي وثقافة الغرب، وفي الحقيقة بأن مختلف أنماط الثقافة والإبداعات والاختراعات انتقلت من حضارة لأخرى على مر العصور، ومقومات الحضارة العالمية الأساسية هي عادة في وحدة الدين واللغة. فمع أن اللغة الانجليزية لغة التواصل بين شعوب العالم، ولكنها ليست اللغة الأكثر شيوعا، فقد انخفضت نسبة المتحدثين بها في العالم من 9.8% في عام 1958، إلى 7.6 % في عام 1992، بينما ارتفعت نسب المتحدثون بمعظم اللغات الأخرى. فقد زادت نسبة المتحدثين باللغة العربية في العالم من 2.7% إلى 3.5%، والاسبانية من 5% إلى 6.1 %، والهندية من 5.2% إلى 6.4%، بينما حافظت اللغة الصينية على نسبة 15%. وزاد التطرف الديني والخلاف بين الأديان، وترافق بانخفاض نسبة المسيحيين من 34.4% في عام 1900 إلى 32.3% في عام 2000، ومن المتوقع أن تنخفض هذه النسبة إلى 25% في عام 2025، كما ارتفعت نسبة المسلمين في نفس الفترة من 12.4% إلى 19.2%، ومن المتوقع أن ترتفع في عام 2025 إلى 30%. وارتفعت في نفس الفترة نسبة الهندوس من 12.5% إلى 13.7%، والبوذيين من 7.8% إلى 5.7%، واللادينين من 0.2% إلى 17.1%، بينما انخفضت نسبة المؤمنين بالعقائد الصينية من 23.5% إلى 2.5%. فتؤكد كل هذه الأرقام بأن لا إعلام الغرب ولا ثقافته ولا لغته ولا دينه مهيئين لحضارة عالمية، كما لن تستطيع ليبرالية الغرب أن تحقق الحاجيات النفسية والعاطفية والأخلاقية والاجتماعية للمهاجرين من الريف إلى المدن أو من الشرق للغرب.
ويعتقد هاتنجتون بأن فكرة الحضارة العالمية هو نتاج الحضارة الغربية، وتعبير للهيمنة السياسية والاقتصادية للغرب في القرن التاسع عشر على المجتمعات اللاغربية، كما ساعدت على تبرير هيمنة الثقافة الغربية في القرن العشرين. فالعالمية ما هي إلا أيديولوجية غربية لمواجهة الثقافات اللاغربية، وفي نفس الوقت الذي يعتبر الغرب كل ذلك تكامل عالمي، تعتبره الدول اللاغربية بأنها امبريالية تهدد مصالحها وبقائها. وقد اعتمدت فرضية بزوغ حضارة عالمية، على أن انهيار الشيوعية السوفيتية هي نهاية للتاريخ، وانتصار للديمقراطية اللبرالية، وتعاني هذه النظرية من مغالطة حرب باردة، وهي أن البديل الوحيد للشيوعية هي الديمقراطية اللبرالية، وسيؤدي انهيار الأولى لعالمية الثانية. وفي الحقيقة هناك الكثير من الأنظمة الشمولية والمؤسساتية الحاكمة، كما أن شيوعية السوق نشطة ومستمرة، وتوجد بدائل دينية كثيرة خارج عالم العلمانية. وفي عالمنا المعاصر، يعتبر الدين القوة المركزية التي تحرك شعوب العالم، ومن العجرفة أن نعتقد بأن انهيار الاتحاد السوفيتي أدى لانتصار الغرب في كل زمان ومكان، وسيتسارع المسلمون والصينيون والهنود وغيرهم ليقبلوا باللبرالية الغربية كالخيار البديل الوحيد. فقد انتهى تقسيم الحرب الباردة للبشرية، والتقسيم الفعلي مرتبط بالعرقية والدين والحضارة، وسيبقى ليفرخ حوارات وخلافات وصراعات جديدة.
وينتقد الكاتب النظرية الخاطئة الثانية، التي تعتقد بأن زيادة تفاعل الشعوب من خلال التجارة والسياحة والاستثمار والإعلام والاتصالات، أدى لخلق ثقافة عالمية. فلا شك بأن تطور المواصلات والاتصالات سهل انتقال الأموال والأشخاص والمعلومات والأفكار حول العالم، ولكن لم تقلل الصراعات والحروب. ولم تؤكد تجارب القرن العشرين بأن التجارة تعزز السلام، بل تبين الأبحاث بأن زيادة قوة التجارة، تسبب الشقاق في السياسة الدولية، وزيادة التجارة الدولية لا تقلل الخلافات أو تعزز الاستقرار العالمي. كما بينت الأبحاث بأن تشابك المصالح الاقتصادية قد تعزز السلام أو قد تؤدي للحرب، حسب توقعات التجارة المستقبلية، فتعزز السلام حينما تتوقع زيادة التجارة، ومع توقع نقصها قد تكون الحرب النتيجة المحتملة. وتحدد البشر عادة شخصيتها بما لا تكون، ففي عالم تزايد العولمة، والمعروف بزيادة التشابك الحضاري والاجتماعي والوعي المجتمعي، تزداد حاجة الفرد للوعي الحضاري والاجتماعي والعرقي والشخصي، لينتشر الانبعاث الديني والرجوع للروحانيات كاستجابة لإدراك الإنسان بأن العالم مكان مفرد. وتتعلق النظرية الثالثة بعملية الحداثة الصاعدة منذ القرن الثامن عشر بالتصنيع والتمدن وزيادة الثقافة والوعي والتعليم والثراء والبنية الوظيفية المعقدة، والتي أدت لتشابه المجتمعات، ولكن لم تؤدي لتجانس شعوبها. فقد كان الغرب غربا قبل الحداثة واستمر غربا، فالذي كان يميزه من قبل فلسفة الإغريق والقانون الروماني والدين المسيحي واللغات الأوربية والجماعية المتنوعة للمجتمع، والتي أنتجت مؤسسات المجتمع المدني واللبرالية والعدالة، وهي غربية، وأتت قبل الحداثة، وقد تكون سبب مهم لحداثة الغرب.
وقد عزز توسع الغرب انتشار الحداثة والغربنة في المجتمعات اللاغربية، والتي رفضتها بعض قياداتها السياسية والثقافية، فاحتضن اتاتورك تركيا الغربنة والحداثة، ورفض لغة بلاده وتقاليدها ودينها، في الوقت الذي رفضت اليابان الغربنة وقبلت بالحداثة للمحافظة على تقاليدها وقيمها وحضارتها، فطورت بلادها بالقانون والسوق الحرة والتعليم والتقدم العلمي والتصنيع. ويعلق المفكر الغربي ماكسيم رودنسون على تصادم الحداثة مع الإسلام فيقول: quot;لا يتصادم الإسلام مع الحداثة، فيستطيع المسلمون احتضان العلوم، والعمل بكفاءة في المصانع، واستخدام الأسلحة المتقدمة. فالحداثة لا تحتاج لأيديولوجية سياسية، ولا لمؤسسات معينة كالانتخابات والحدود الوطنية والمنظمات المدنية، كما أن السمات المميزة للحياة الغربية ليست مهمة للتنمية الاقتصادية. فيتقبل الإسلام المستشار الإداري كما يرضى بالفلاح، فلا تتدخل الشريعة في التغيرات المرافقة للحداثة، كالانتقال من الزراعة للصناعة، ومن القرية إلى المدينة، ومن الاستقرار المجتمعي إلى الهجرة، ولا تتدخل في زيادة التعليم وسرعة الاتصالات والرعاية الصحية.quot; ويعتقد هانتنجتون بأن: quot;الحداثة لا تعني الغربنة، فالمجتمعات اللاغربية تستطيع أن تحتضن الحداثة، بدون أن تتخلى عن ثقافتها، وبدون أن تتبنى القيم الغربية ومؤسساتها وممارساتها، بل ممكن أن تقوي هذه الثقافات بالحداثة، لتقلل قوة الغرب، وفعلا بدأ العالم يصبح أكثر حداثة وأقل غربنة.quot; ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان