اثار مقالنا حول القبيلة والطائفة والمجتمع المدني تساؤلات وجيهة حول محاولة دمج القبائل والعشائر والطوائف في المجتمع، وكذلك تطور ادارات ومؤسسات مجتمع مدني خلال الحكم الملكي في العراق. وقد قلت quot; محاولة quot;،لان كل محاولة معرضة للنجاح أو الفشل، وقد تحقق جزء من أهدافها، وهذا مرهون بالظروف الذاتية والموضوعية التي تحيط بها.

من الممكن تقسيم تاريخ العراق الحديث الى ثلاث مراحل تمثل كل مرحلة منها جيلا ، على اعتبار ان عمر كل جيل هو ثلاثون عاما، وهي مراحل تقريبية وليست جامدة وغير متحركة وهي :
أولا- جيل التأسيس، الذي يمتد من بداية القرن الماضي حتى الحرب العالمية الثانية (1915 - 1945)
ثانيا- جيل البناء الذي يمتد من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى منتصف السبعينيات (1945 - 1975)
وثالثا - جيل الحرب والحصار، وهو جيل الضياع وبدايات quot; الردة الحضاريةquot; الذي يمتد من منتصف السبعينيات الى سقوط النظام على أيدي قوات الاحتلال (1975 - 2005)
ثم يليه جيل الاحتلال والفوضى والدمار الذي بدأ مع سقوط النظام السابق وغزو العراق من قبل قوات الاحتلال والذي ما يزال مستمرا وينبأ بمستقبل ما زالت آفاقه غير واضحة المعالم.

جيل التأسيس
سبق جيل البناء جيل ما قبل التأسيس وهو جيل ما قبل الحرب العالمية الاولى الذي كان افرازا طبيعيا لحركة الاصلاحات الادارية التي جرت في الدولة العثمانية وكذلك حركة النهضة العربية- الاسلامية. وهو الجيل الذي اطلق عليه سيار الجميل جيل quot;العمامة والطربوش quot; ، الذي وضع اللبنات الاولى لمشروع النهضة وانتقل من العثمانية الى العروبية وشارك فيه مثقفون عراقيون اشتركوا في ثورة تركيا الفتاه عام 1908 مع مدنيين وعسكريين واقاموا تنظيمات سياسية كجمعية المنتدى الادبي وجمعية العهد العسكرية في استنبول والتي كان لها فروع في المدن العراقية.
وكانت الحرب العالمية الاولى من وجهة النظر الاجتماعية حدثا هاما يفصل بين عهديين متميزيين، ونقطة تحول اجتماعي واقتصادي وسياسي، فتحت امام العراقيين آفاقا جديدة وواسعة لم يكونوا قد تعرفوا عليها بعد العزلة الاجتماعية والثقافية والسياسية عن العالم، حيث فتحت امامهم ابواب التحديث بشكل واسع وايقظت فيهم روح المبادرة والانفتاح على عناصر الحضارة الاوربية وتجاوز الخوف من المجهول وتغيير النظرة الغيبية الساذجة التي اشاعتها الدولة العثمانية ممثلة للخلافة الاسلامية ووجوب الدفاع عنها ضد الكفار الذي يريدون افساد دنيا المسلمين ودينهم. وقد زادت فتاوى رجال الدين بالجهاد ضد الكفار من حدة المقاومة للحضارة الغربية ومحاربة عناصرها المادية والمعنوية، وتحريم كل شيء جديد من افكار وعادات وازياء وبضائع، حتى لو كانت مفيدة ونافعة، بحيث اصبحت قراءة الجريدة وتعلم اللغة الانكليزية ولبس القبعة والاكل بالملعقة والجلوس على الكراسي وغيرها محرما.
لقد احدثت الحرب العالمية الاولى تغيرات وتبدلات بنيوية عميقة ومثيرة في ذات الوقت، سببت تناشزا اجتماعيا ونفسيا واحدثت انقسامات بين فئات واسعة من الشعب العراقي . فالحضارة الغربية الوافدة، عند مقارنتها بالحضارة المحلية التقليدية، تكون متقدمة علميا وتكنولوجيا وثقافيا وهذا ما اثار دهشة العراقي وجعلته منبهرا امام التقدم التكنولوجي.
لقد انتج التطور العلمي والتكنولوجي الذي افرزه التحديث تغيرا سريعا في التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لم يكن له مثيل، فقد انتج التقدم العلمي والتقني مخترعات واكتشافات عديدة في مجال الصناعة والتجارة والمواصلات والتربية والتعليم والاعلام ووسائل الاتصال الحضاري. فعندما دخلت اول سيارة الى بغداد عام 1908 اندهش العراقييون لرؤيتها لانه لم يكن باستطاعتهم تصور ان عربة تسير من دون ان يجرها حيوان. ثم تبع ذلك عدد من المكتشفات والمخرعات العلمية التي اذهلت عقول الناس آنذاك كالطائرة والراديو وغيرها.
كما انتج التقدم الاجتماعي والاقتصادي والتكنولوجي تناشزا اجتماعيا في القيم والمعايير وفي طرائق التفكير والسلوك وذلك بسبب عدم حدوث تغير اجتماعي على مستوى واحد في جميع مناطق العراق وهو ما انتج اشكالا من الصراع الاجتماعي واحدث انقسامات بين فئات واسعة من الشعب العراقي. ونتيجة لذلك حدث نزاع بين مؤيدي الحضارة الغربية وبين الواقفين ضدها. وقد اطلق علي الوردي على الفئة الاولى اسم quot;المجددينquot; وعلى الفئة الثانية اسم quot; المحافظينquot; . وقد اعتبر كثير من العراقيين بان المجددين quot;كفاراquot; حينذاك ، في حين اصطدم الجيل الجديد ،الذي تعلم ونضج بسرعة، مع المحافظين واخذ الصراع لأول مرة شكل صراع بين فكر تقليدي قديم ومحافظ وآخر عقلاني حديث يطالب بفصل الدين عن الدولة ، بعد قرون عديدة من انظمة الحكم الاوتوقراطية التي عودت الناس على الجهل والخرافة والطاعة العمياء.
وبالرغم من سلسلة الحروب والكوارث والأوبئة والفيضانات المدمرة التي مرت على العراق بقيت المدن الكبرى كمراكز حضارية لها أهميتها التجارية والثقافية. فمدينة بغداد، التي تأسست على يد المنصور العباسي قبل اكثر من ألف سنة، بقيت قلب العراق وعاصمته حتى اليوم، مثلما بقيت الموصل ثغر العراق الشمالي ومركزها الدفاعي، اضافة الى موقعها التجاري الهام في علاقاتها مع الشام وتركيا واطلالتها على منطقة الجزيرة ، اضافة الى ما تمتاز به من تعدد وتنوع أثني وديني وطائفي. أما البصرة فهي فيحاء العراق الجنوبي وميناءه الرئيسي وذلك لوقوعها على شط العرب الذي يصب في الخليج. واذا كانت النجف وكربلاء مركزان دينيان وسياحيان هامان، فان مدن الشمال وقراه تكون مراكز سياحية صيفية خلابة. أما مدن العراق الاخرى فتتقاسم الانتاج الزراعي والصناعي والتجاري وغيره.

بعد سقوط بغداد على أيدي قوات الاحتلال البريطانية عام 1917 وتنصيب فيصل ملكاً على العراق عام 1921 لحل الصراعات المحلية على السلطة كان في مقدمة مهمات قوات الاحتلال هو السيطرة على العراق ومن ثم بناء raquo;دولةlaquo; ووضع دستور وتأسيس برلمان وبالتالي السيطرة على النزاعات القبلية وتخفيف حدة المؤسسة الدينية التي قادت حركة الجهاد وثورة العشرين واعطاء raquo;الفردlaquo; ولأول مرة أهمية في المشاركة السياسية وبناء الدولة الفتية. وقد بدأت حكومة الملك فيصل بمساعدة قوات الاحتلال البريطانية بتأسيس نواة للجيش العراقي وبناء مؤسسات مدينية تخص التعليم والقضاء والصحة والادارة والزراعة والري. وبالرغم من ان بناء هذه المؤسسات جاء من اجل تحقيق المصالح الاساسية لسلطة الاحتلال البريطانية، إلا أن تلك المؤسسات ساهمت بالتأكيد في اقامة دولة وادارات ومؤسسات مدينية لم يألفها العراقيون آنذاك.

لقد تميز جيل التأسيس بولادة مجتمع جديد وولادة دولة حديثة ذات نزوع قومي ووطني ليبرالي ومحاولة تشكيل نخبة سياسية واجتماعية طليعية تقود البلاد نحو التوحيد والاستقرار وتشارك في نشر الوعي والروح الوطنية وبناء منظمات اجتماعية وثقافية ومؤسسات سياسية .
وقد اعتمد الملك فيصل على نخبة من المدنيين والعسكريين ومجموعة من المثقفين الذين كانوا من بقايا النخبة العراقية العثمانية السابقة التي شاركت في مجلس المبعوثان في الاستانة.

وبرغم اهتمام هذا الجيل بمسألة ترسيخ الدولة الفتية وتطور مؤسسات مدنية جديدة وتأسيس جيش وطني، فقد حاول بناء مجتمع مدني يدعم السلطة. فقد تأسست خلال العشرينات من القرن الماضي سبعة احزاب سياسية وسبع جمعيات اجتماعية وثقافية وصدرت عشرات الجرائد والمجلات وينيت عشرات المدارس والكليات. وبالرغم من ان الظروف الموضوعية كانت غير ناضجة تماما، الا ان تلك النخبة التي كان من المفروض ان تكون طليعية لم تستطيع توجيه الاهتمام الى مهمة اساسية في بناء الدولة الحديثة وهي ضرورة بناء وتطوير هوية وطنية عراقية واحدة تجمع كل فئات وطبقات وشرائح المجتمع العراقي وتستقطب جميع الولاءات والانتماءات الاثنية والدينية والقبلية والطائفية في وحدة وطنية واحدة.
ويعتبر عهد الملك فيصل الاول (1921 - 1933) مرحلة هامة في بناء العراق الحديث وتكوينه السياسي، على الرغم من تحالفه مع الانكليز والعقبات التي اعترضته منهم من جهة، ومن الشعب العراقي غير الموحد والذي ما زال وعيه الوطني والسياسي غير ناضج. حيث حاول الملك فيصل الموازنة بين ما يفرضه عليه ارتباطه مع الانكليز وما يفرضه عليه واجبه ومسؤولياته في تنمية آليات الوعي السياسي والاجتماعي وخاصة لدى النخبة المثقفة، وكذلك تشجيع قيام الاحزاب والجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني، التي فتحت عيون العراقيين على احدث التيارات السياسية والثقافية في الغرب.
ومع ذلك فان التعددية السياسية التي قامت في عهده لم تكن بطريقة ديمقراطية ولم تجر بصورة طبيعية، حيث شابها عدم الاستقرار السياسي. وكان للملك فيصل شخصية كارزمية قوية، واستطاع الهيمنة على الوضع السياسي الى حد بعيد. وقبل وفاته تحقق استقلال العراق ودخل عضوا في عصبة الامم عام 1932. الا ان وفاته المفاجئة غيرت مجرى الامور بالرغم من ان السلطة بقيت بيد النخبة السياسية المخضرمة التي تكونت من العسكريين القدامى والمثقفين العثمانيين الذين حاولوا انتهاج افكار وسياسة الملك فيصل وتحقيق مشروعه.
بعد وفاة الملك فيصل تولى السلطة من بعده ابنه غازي (1933 - 1939) الذي كان شابا متحمسا ومندفعا وله طموحات قومية بعيدة المدى، ساعدته على تشكيل مجموعات سياسية يغلب عليها الطابع القومي، مما دفع الى انحسار سلطته وتفجير التناقضات التي كان الملك فيصل الاول يسيطر عليها ويوجهها بحنكته المعروفة.
ورغم وطنية الملك غازي وكرهه للانكليز الذي حببه الى الشعب العراقي، غير انه كان ضعيفا في تسيير الامور السياسية وتوجيه دفة الحكم . وكانت نتيجته الاغتيال السياسي.

ولم تمض على وفاة الملك فيصل الاول الا سنوات حتى بدأت الامور تتغير وتتحول نحو الاسوء من حيث فساد الطبقة الحاكمة وذلك باتخاذ حكومة نوري السعيد اجراءات وتشريعات فردية ولا ديمقراطية افسدت بدورها المؤسسات والمنظمات المؤسسات الديمقراطية الوليدة. ففي خضم تلك الاجراءات اللاديمقراطية كان يجري اقحام شيوخ العشائر في المعارك السياسية وافساد القضاء وتعميق الفوارق الطبقية والاستئثار بالسلطة واحتكارها من قبل اعوان نوري السعيد وشيوخ العشائر ومتنفذي المدن، عن طريق كبت الحريات وخنق اصوات المعارضة الوطنية التي بدأت بالتطور والنمو وأخذت تشكل خطرا علي السلطة، كان من نتائجها حدوث حركات مسلحة وانتفاضات سياسية عنيفة كان من ابرزها: انتفاضات الاثوريين عام1933 وعشائر الفرات الاوسط عام 1935 وانقلاب بكر صدقي عام 1936 ووثبة كانون عام 1948 وانتفاضة عام 1952 اضافة الى حركات الاكراد البرزانيين وغيرها.

لقد كانت وفاة الملك فيصل الاول السريعة خسارة جسيمة للعراق. فهو عمل على بناء دولة عراقية حديثة مع حياة برلمانية وتأسيس احزاب وجمعيات تنفتح على الحداثة الغربية، ورغم التخلف والصعوبات والمشاكل مع الانكليز وشيوع الروح القبلية والعنصرية والطائفية وسيطرة ملاك الاراضي الكبار من شيوخ العشائر ومتنفذي المدن والاغوات، فان عهد الملك فيصل، مع ذلك، كان افضل عهدquot; ليبراليquot; في تاريخ العراق الحديث. رغم ما شابه من تناقضات وصعوبات وتعسف وعدم تمكنه من تحقيق ما وعد به من فصل بين السلطات وتحقيق المساواة النسبية بين فئات الشعب العراقي. ولو تأخرت وفاة الملك فيصل الى ما بعد الحرب العالمية الثانية، فربما كان بالامكان تجنب كثير من الامور السلبية التي مر بها العراق.
ان عدم تحقيق اهداف الملك فيصل الاول التي اعلنها في مذكرته التي قدمها الى الوزارة السعيدية الثانية عام 1933 ووفاته المفاجئة وعدم اقتدار الملك غازي في ادارة دفة الحكم وتدخل الوصي عبد الاله لتنفيذ سياسة ومصالح الانكليز، من جهة، وصراعه مع نوري السعيد من جهة اخرى، ساعد على صعود عدد من ضباط الجيش العراقي الى المواقع السياسية و نمو الحركات الوطنية والقومية التي تحالفت مع جماهير المدن والارياف وحصلت على مواطئ قدم لها في الجيش العراقي نفسه وفي ذات الوقت حدث تحالف جديد بين قوى الحكومة وشيوخ العشائر وكبار التجار والملاكين والاغوات للوقوف امامها.
لكن بالرغم من اهتمام هذا الجيل بمسألة ترسيخ اركان الدولة العراقية وتأسيس دولة ووطن ولّم شمل الاجزاء المبعثرة من العراق وتجميعها في أمة، فانها لم تستطع تمثيل جميع العراقيين، ولذلك بقي الشعور الموروث من الدولة العثمانية بالغبن وعدم تمثيل الاغلبية مستمرا. وهو ما عمل على تكوين شعور بالاغتراب عن الدولة والوطن ولم يساعد على تشكيل هوية وطنية واحدة تجمع جميع العراقيين تحت راية واحدة.