في مرآة الثورات العربية نستطيع أن نرى ثلاثة أجيال: العجوز، والشاب، والطفل. تتشارك لحظة مصيرية واحدة. من المفترض أن يحدث تواصل بين الأجيال الثلاثة لنقل الخبرات والمعارف، وتبادل السلطة. لكن انسداد قنوات التواصل، وافتقاد الثقة، وتشبث الجيل الأكبر بالكراسي في علاقة تأبيدية، منافية لحركة التاريخ وقوانين الطبيعة، كل ذلك يؤدي دائماً إلى انفجار الصراعات. وما quot;الثورةquot; إلا تجل للرفض والتمرد والاحتجاج واحتدام الصراع.

هكذا قامت الثورات العربية ضد حكام quot;عواجيزquot;، تشبثوا بالسلطة لعقود مثل: بن علي، مبارك، القذافي، صالح، وحتى بشار الأسد هو وريث نظام quot;عجوزquot;.. ومن الطبيعي أن يكون جيل quot;الشبابquot; عماد هذه الثورات لإزاحة من حرموهم، ليس فقط من حقهم في السلطة والمناصب، بل أيضاً من أساسيات الحياة الآدمية: العمل والمأوى والمأكل والكرامة الإنسانية وحرية التعبير.

وعندما نقرأ الثورات العربية اجتماعياً ونفسياً، من المفيد لنا الوعي بحركة الأجيال، لأن تلك الحركة هي منشأ تطور المجتمعات الإنسانية. ولذلك ليس غريباً أن روائياً كبيراً مثل نجيب محفوظ عندما أرّخ لثورة 1919 في مصر، رصدها في quot;الثلاثيةquot; باعتبارها حركة ممتدة لثلاثة أجيال.

وإذا كان الجيل quot;العجوزquot; يملك ما لا يخفى من أدوات السيطرة والدعاية لنفسه، وإعادة إنتاج نظامه، فإن الجيل الشاب المتحمس يملك هو الآخر روح العصر والابتكار والأفكار الثورية والمثالية.. التي يستطيع من خلالها أن يثبت نديته، فيكفي أن يدير شاب كاميرا هاتفه صغيرة الحجم، كي يحرج جيشاً نظامياً عبر العالم كله، من خلال مقطع فيديو لا يتجاوز دقيقتين و بالإمكان بثه إلى ملايين البشر في ثوان.

لكن ما بين صراع هذين الجيلين، ورغم انشغال كل وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، بمتابعة تفاصيله واستشراف نهايته، لكن الجيل الثالث، جيل الأطفال لم يحظ بأي اهتمام يذكر. كأنه ليس جزءاً أساسياً في هذا الصراع الدائر، وكأنه لم يدفع الثمن مضاعفاً!

من ثم ليس منطقياً أن يتحدث الجميع، السلطة والمعارضة، باستفاضة عن المستقبل الموعود، ويوتوبيا الديمقراطية، بينما لا أحد فيهم يهتم بأمر أبناء هذا المستقبل، كيف يعيشون تلك اللحظة المرعبة؟ وما مدى تأثيرها على وجدانهم ووعيهم وخياراتهم المستقبلية؟ وكيف يعيش طفل بعدما فقد أباه أو أمه دون ذنب أو جريمة إلا كونه يطالب بحقه الأساسي في الحياة؟!

إن استقراء علاقة الطفل العربي بالثورات الحالية يأخذ ثلاثة أبعاد أساسية، تتطلب البحث والتحليل والإرشاد النفسي أكاديمياً، كما تتطلب الحذر والمصداقية في التداول الإعلامي، والنزاهة وتحمل المسؤولية من قبل طرفي الصراع/الثورة. وسنحاول فيما يلي تسليط ضوء مكثف على تلك الأبعاد.

1.إشعال فتيل الثورة
على الرغم من أن فتيل الثورة يشعله الشباب عادة لكن شرارة الثورة السورية اندلعت على يد عدد من الأطفال دون سن الخامسة عشرة، متأثرين بما يرونه في القنوات التلفزيونية، حيث كتبوا شعار quot;الشعب يريد إسقاط النظامquot; على سور المدرسة، في مدينة درعا، وبدلاً من احتواء ذلك بشطب الكلام على الأقل، قامت الأجهزة الأمنية بالقبض على الأطفال وتعذيبهم تعذيباً وحشياً، وكأنهم سياسيون مخضرمون يهددون أبدية النظام، أو ناضجون ومتحملون لنتائج أفعالهم.. وربما هدفوا بذلك إلى توصيل رسالة مزدوجة: الأولى إلى السلطة الأعلى بأن الأمن quot;مستتبquot; ويحكم بقبضة حديدية. والثانية إلى الأهالي بأنه لن يسمح لكبير أو صغير بالخروج على quot;النظامquot; ومس هيبته. وكانت النتيجة تصاعد أعمال العنف وخروج الأمور عن السيطرة.. وتناسى أصحاب الحلول quot;الأمنيةquot; أن هؤلاء أطفال لا يدركون بعد الفروق بين quot;الواقعquot; وquot;الخيالquot;، وأكثر براءة من توظيفهم إيديولوجيا، سواء مع النظام أو ضده، بل حتى لا يصح أن يلاموا على تأثرهم بالتلفزيون لا أن يعاقبوا على هذا النحو المروع!

وتكررت المأساة مع الطفل حمزة الخطيب الذي لقي مصرعه على يد القوات الأمنية والتمثيل به، وقطع أعضائه الذكرية، حسب ما تناقله العديد من وسائل الإعلام. الأمر الذي يمثل قمة quot;الساديةquot; Sadism لدى النظام ورجاله، الذي لم يتعامل مع الطفل وفق منطق quot;اضرب المربوط يخاف السايبquot; فقط، بل اتخذ من جسد quot;حمزةquot; رمزا للشعب بأكمله، هذا الشعب الذي عليه أن يكون خاضعا، راضيا بما يقضيه النظام، وإذا فكر يوما في التمرد أو العصيان، فإن مصيره سيكون ليس التعذيب فقط، إنما quot;الإخصاءquot; حتى وإن كان ميتا!
وربما كان استهداف الأطفال في معظم بلدان الصراع والثورات، هو استهداف لروح الشعب وعذريته وبراءته وحلمه للمستقبل، وتحد قاس لكل الآباء والأمهات ورهان فاشل على الصمت والتخاذل، لأنه في أغلب الحالات يشتد الصراع ضراوة ويشعر الأهالي بالصلابة النفسية واحتساب أولادهم شهداء وينذرون ما تبقى من أعمارهم لاستعادة حقهم مهما كلفهم الأمر. ما يمثل خسارة كبيرة للأنظمة الفاشية التي تصاب بـ quot;السعارquot; النفسي من مجرد تعبير الأطفال عن آراء لا تمثل أي تهديد حقيقي أو خطر على عروشهم، إنما الفزع والقلق النفسي الكامن داخل نفوس هؤلاء الرؤساء الضعفاء نفسياً يجعل من أي إشارة إليهم تهديدا حقيقا لوجودهم الهش.

2.المشاركة
لا توجد ثورة عربية بلا أطفال، هذا ما تكشفه الكاميرات التي تتابع ما يدور في الميادين الثائرة، فبعض الآباء يحرص على حمل أطفاله على كتفيه للمشاركة في quot;اللحظة التاريخيةquot; وصناعة مستقبل أفضل لهم. وإذا كانت الأجواء احتفالية وخالية من الكر والفر والقنابل المسيلة للدموع والقنص من فوق السطوح، فهي فرصة لالتقاط الصور مع الأطفال إلى جانب الدبابات أو المباني المحترقة، لتوثيق اللحظة. وبعض هؤلاء الأطفال في مصر رأيناه محمولاً على الأعناق يقود المظاهرات، فيما الأكبر سناً يرددون الهتافات خلفه، بغض النظر عن وعيه بما يقول. كما رأينا أطفالاً في ليبيا واليمن في مشاهد يشاركون في توصيل السلاح وتنظيفه بل إن بعضهم كان يحمل السلاح بنفسه!

تلك المشاركة قد تحمل أكثر من رسالة رمزية، لتأكيد أن الأطفال لا يقلون شجاعة عن آبائهم، وكي يشهدوا على مقاومة الآباء للسلطة الفاسدة. وهناك من يدافع عن أهمية مشاركة الأطفال في تلك اللحظة المصيرية التي قد لا تتكرر في العمر إلا مرة واحدة، باعتبارها تكرس داخل الطفل وعيا مبكرا بمعنى الوطنية وتشكل مفرادته وتفكيره بطريقة مغايرة، وتصقل شخصيته وتفتح أفقه على مباديء وقيم ثورية.

لكن ندرة ومصيرية اللحظة لا يجب أن ينسينا مدى تأثيرها السلبي على تكوين الطفل النفسي، فالأب أو الأم، يأخذ قرار المشاركة في المظاهرات والثورات، بكامل وعيه وإرادته، ويتقبل النتائج المترتبة على ذلك من الضرب والإصابة والسجن والتعذيب والقتل أيضاً. فهل من حقه، بحكم ولايته على طفله، أن يعرضه لهذه الأخطار؟!

وإذا كان الأب يستطيع التعامل مع الموقف وحماية نفسه، فإن الطفل بالضرورة يعجز عن ذلك، وقد يذهب ضحية الزحام والعجز عن الحركة بسرعة كافية. والأهم من ذلك أن الأب يملك من العقل ما يجعله يحكم على الأمور بموضوعية ما، وفق قناعاته، بينما الطفل مازال في طور التشكل، فهو ما يزال يرى ما حوله بعواطفه وخياله وانفعالاته البريئة، فالآلية العسكرية، مثلاً، لا يراها في حجمها الطبيعي، بل يراها مقارنة بحجمه الصغير، كأنها شبح هائل، وتؤثر قطعاً على وعيه، وقد لا تظهر نتائج ما يراه مباشرة، وإنما على المدى الطويل، فتلازمه مخاوف، وأعراض قلق، وأحيانا اضطرابات نوم، وبعض السلوكيات العدوانية بشأن تلك الآلات وزي الجنود ودوي الرصاص وأزيز الطائرات. ولا يختلف الأمر كثيراً، فيما يتعلق بالسماح للأطفال بمتابعة الصور ذاتها على القنوات الإخبارية، خصوصا ما يتعلق منها بالجثث وتشويهها والإساءة بأنواعها التي يتعرض لها المتظاهرين أو الثوّار.

3.استغلال الأطفال
إن الصورة الخلابة التي يقدمها الإعلام الرسمي عادة للأطفال، والبرامج المعلبة والقصص العالمية، أقرب إلى حالة فصامية لا علاقة لها بواقع الطفل العربي. فثمة صور شتى لاستغلال الأطفال سواء في العمل الشاق الرخيص أو الحروب أو تجارة الأعضاء أو الجنس، أو حتى الثورات.
وعلى الرغم من صعوبة الحصول على بيانات دقيقة، لكن المؤشرات العامة ليست إيجابية، لأن الطفل هو الضحية الأولى لتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لسبب بسيط جداً، أنه لا يتحمل أية مسؤولية عن ذلك. وهناك صور عدة لاستغلال الأطفال في هذه الثورات أهمها:
bull;الدعاية
إن للطفل روح ملائكية وبريئة، ما يجعله وسيلة مضمونة ومدهشة في تأثيرها لكل أنواع الدعاية، بدءاً من إعلانات المنتجات وأغاني الفيديو كليب، وانتهاء بالصراعات السياسية والعسكرية. لذا يحاول طرفا الصراع في الثورات العربية، توظيف الطفولة كأيقونة دعائية.

وفي هذا السياق، لا نعدم ظهور كليبات للرئيس، أي رئيس، وهو يقبل أطفالاً يلقون القصائد في مدحه ويشيدون بأبوته، في مقابل كليبات أخرى ينشرها المعارضون لجثامين أطفال تم تعذيبهم وتشويههم. فضمن حرب الدعاية تلك رأينا صوراً للأطفال وهم يبتسمون كالملائكة في مدارسهم، إلى جانب صورهم بعد القتل والتعذيب.

إن كلا الطرفين يشتغل على صك quot;البراءةquot; التي يمتاز بها الطفل، فالطفل هو حقيقة المجتمع في سموها ونبلها، وهو بوابة المستقبل، والرهان عليه رهان على كل المعاني التي تمثلها الطفولة، وهكذا يحاول كل طرف أن يثبت أنه من يحمي البراءة والعدل والحقيقة والمستقبل ضد الطرف الآخر. وطالما أن الطفل معه، فالحق معه، والانتصار من حقه لبناء المستقبل، كما يتصوره.

وما إجباره على الهتاف والتظاهر ورفع الأعلام، أو الغناء للحكام، أو المشاركة في الدعاية الانتخابية وتوزيع الملصقات، أو عرض صورهم المأساوية، إلا صور متفاوتة لعملية استغلال، سواء أكنا واعين إلى ذلك أم لا، وبغض النظر عن سلامة النية أحياناً.

وإذا كانت quot;اليونيسفquot; ومؤسسات الأمم المتحدة تجرّم، كافة أشكال استغلال الأطفال التي أشرنا إليها، فإن ذلك يستوجب المعاملة بالمثل، في تعريض الأطفال للخطر، أو التعدي الوحشي عليهم كجريمة ضد المستقبل وضد الإنسانية، أو استغلالهم وتوظيفهم لمصلحة أيديولوجيا ما، ولحساب طرفي الصراع، حتى لو كان من الصعب إثبات ذلك أو محاسبة المسؤول عنه.

bull;أعمال العنف
تابعنا أيضاً استغلال أطفال الشوارع والملاجئ والأحداث في عمليات التخريب وإلقاء quot;المولوتوفquot; وهدم المؤسسات وحرق المباني، مثلما جرى في أحداث quot;مجلس الوزراءquot; في مصر، ومثل هذا الاستغلال سيظل وصمة عار في جبين أنظمة فاشلة وجماعات سادية لا تراعي حُرمة الطفولة، وتجيد صناعة quot;المجرم الصغيرquot;، وتوظيفه، ثم إدانته وتنفيذ العقوبة، والانتصار للـ quot;عدالةquot;!!

لم يكتف المستغلون بأن يكون الشارع مأوى لهؤلاء الأطفال المحرومين من أدنى الحقوق الآدمية، ولا كونهم يعيشون عالقين في الحياة دون أسرة تحميهم أو مجتمع مسئول عنهم، فكان التعامل معهم كأدوات في صراع لا يدرون عنه شيئاً، وتوظيفهم في تنفيذ مخططات إجرامية باعتبارهم أشخاص ليس لهم quot;دِيةquot; فإن قتلوا أو أصيبوا لن يسأل عنهم أحد، وإن ضعفوا واعترفوا بما تورطوا فيه (وهذا ما حدث مع بعض الحالات) لن يصدقهم أحد، فمن يصدق مجرم أو طفل شارع؟! ما يعد أقصى درجات الإساءة والاستغلال. فبدلا من حماية هذه الفئة من الأطفال والدفاع عنها واحتوائها باعتبارها نتيجة للفقر والبطالة وفشل النظام في توفير حياة كريمة لأسرهم، تم توريطهم في أعمال الشغب والعنف. وبالفعل تم القبض على مجموعة منهم، بعضهم لا يتجاوز سن الثانية عشر، ولم نسمع أن هناك من تطوع للدفاع عنهم أو تسيير مليونيات من أجلهم، ما يعكس الموقف المجتمعي، سواء شعوريا أو لاشعوريا، الذي يعتبرهم يعيشون على هامش الحياة. والحقيقة أن هذا الموقف نتيجة تراكمات طويلة من التوجيه الإعلامي السلبي نحو هؤلاء الأطفال الذين يتم التصدي لهم باعتبارهم مجرمين وخطر على المجتمع (الطاهر) فقط لا غير، لا باعتبارهم أطفالا ضلوا طريقهم وأُجبروا على الحياة في الشارع وتحملوا وحدهم دفع فواتير فساد السلطة مُـصرة على تصنيفهم quot;مجرمينquot; رغما عنهم، وتواطؤ المجتمع، وإهمال الأسرة.

نخلص من ذلك إلى أن حضور الأطفال العرب في الثورات يكشف عن جوانب مأساوية من انتهاك لآدميتهم، وتعذيبهم، وقتلهم وتشويه جثامينهم، أو استغلالهم للمشاركة في القتال وفي أعمال تخريبية، أو على أقل تقدير توظيفهم في حرب الدعاية بين طرفي الصراع، وهو ما يثير ألف علامة استفهام حول تأثير ذلك على صحتهم النفسية ومستقبلهم. وللأسف لم تقدم قضية واحدة جدية تتعلق بهؤلاء الأطفال باستثناء بعض البلاغات الفردية التي لم نر لها صدى أو رد فعل حقيقي، بل لم يحظوا بالتوجيه والإرشاد النفسي الذي يتيح لهم درجة من الفهم والإدراك لما يرون من مآس وصور وأحداث وما يسمعون من شعارات. ولا نبالغ إذا قلنا إن الثمن الفادح لفوران الشعوب وتداعي الأنظمة، يدفعه الأطفال وحدهم.