التقليد الجائر المأخوذ سلفاً عن أصحاب الفرق الذين ليس بوسعهم تصحيح أفكار من سبقهم هو السبب المباشر الذي يتمسك به عامة الناس على اختلاف مشاربهم التي يجمعها رابط واحد يؤدي إلى ابتعاد الأجيال اللاحقة عن المقررات الأولية لفهم الأهداف المرادة من الخصائص الثابتة التي تدعو الإنسان إلى عدم الاعتماد على المنهج التقليدي الذي لا يستطيع التحرر منه على الرغم من تبيان الحقائق التي تلقى على مسامعه بين فترة وأخرى دون أن تجد سبيلاً إلى الدخول في مخيلته وذلك بسبب الوقر الذي في أذنيه والذي لا يريد التخلص منه بسبب التقليد الأعمى الذي تتناقله الأجيال سواء كان ذلك على علم منه بعدم صحته أو أن عقيدة الآباء هي من يقرر الأسس الثابتة في أفكاره مما يجعل هذا النهج أقرب إلى السنة المتبعة في كل زمان ومكان، وقد أشار سبحانه إلى هذا النهج بقوله: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) البقرة 170.

من بعد هذه المقدمة يمكن القول: إن الذين اتبعوا الأساليب والسبل الباطلة لفهم كتاب الله تعالى لا يجدون المبرر الذي يجعلهم على بينة من أمرهم بسبب الاعتقاد الباطل الذي لا يخرج عن أفكارهم كما قدمنا، وبهذا يكون نهجهم في تأويل الآيات لا يتعدى إلى أكثر من أسباب النزول الواهية، وأنت خبير من أن القرآن الكريم لا يقيد بتلك الأسباب وإن سلمنا بصحة بعضها، وذلك لعدة اعتبارات من أهمها أن المورد لا يخصص الوارد، وكذا الحال في الأخذ بعموم اللفظ دون التقيد بالسبب، وهذا لا يحتاج إلى دليل معين إذا علمنا أن القرآن الكريم لم ينزل لأمة دون أمة أو جماعة دون جماعة، كما بين الله تعالى ذلك بقوله: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) النحل 44. وكذا قوله: (وأرسلناك للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً) النساء 79. وقوله: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون) سبأ 28.

من هنا نعلم أن عموم الدعوة لا يقيد بسبب من الأسباب التي يظن كثير من الناس أن اختيار الله تعالى للنبي (ص) أو اللسان العربي لنشر كتابه المجيد فيه بعض المزايا التي تجعل العرب يتفاضلون على غيرهم من الأمم، وهذا ما لا يرضى به الله تعالى، علماً أنه قد بين هذا النهج في أروع بيان وذلك في قوله: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) الحجرات 13. وبناءً على ما مر يمكن أن نصل إلى أن هناك مجموعة من الآيات قد نزلت لسبب معين إلا أن ذلك السبب لا يمكن أن يطغى على المفهوم العام للنص القرآني الذي يصلح لكل زمان ومكان ويعتبر هذا النهج من المسلمات التي لا يمكن اجتيازها من قبل أصحاب العقول الرشيدة، ولكن المؤسف حقاً أن هذا النهج قد ينسب إلى أسباب لا تقارب الواقع، وهذا ما عليه جل الفرق التي أراد أصحابها تقييد اللفظ ومجانبته للحقائق التي تثبت أن العبرة بعموم اللفظ الذي يجعل القرآن الكريم بعيداً عن الخصوصيات. ومن هنا أود الإشارة إلى مجموعة من الآيات التي تمسك كثير من المفسرين بأسباب نزولها ظناً منهم أنها لا تتعدى إلى المفهوم العام فضلاً عن عدم تناسبها مع الوقائع التي جعلت سبباً لنزولها، ومن هذه الآيات:
أولاً: قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) الحج 52. ذكر غير واحد من المفسرين أن سبب نزول هذه الآية يرجع إلى قصة الغرانيق المختلقة التي ورد فيها أن رسول الله (ص) لما قرأ سورة النجم بمكة وبلغ قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى***ومناة الثالثة الأخرى) النجم 19-20. ألقى الشيطان على لسانه quot;تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجىquot; وبعد أن أتم القراءة قال المشركون إن محمداً قد ذكر آلهتنا بخير ولهذا نزل قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك...... الآية) وهذه من أكثر الآيات التي اختلف المفسرون في تأويلها، فمنهم من ظن أن قوله تعالى: (تمنى) على بابه أي ترجى، ومنهم من قال إن التمني يعني القراءة، وهذا صحيح إلا أن استعماله في اللسان العربي لم يكن مشهوراً والقرآن الكريم لا يعتمد المعاني التي لم تكن متداولة عند العرب إذا كان لها بديلاً يصدق عليه الاستعمال الشائع، كما هو الحال في الآجر الذي آثر عليه استعمال الطين وذلك لكثرة تداوله وسعة انتشاره وإن كان الأول صحيحاً فتأمل. وبناءً على هذا البيان يفضل أن يبقى قوله تعالى: (تمنى) على بابه الذي يفيد معنى الترجي وذلك للتخلص من الجدال الذي يثار حول هذه الفرية، وبهذا يكون معنى إلقاء الشيطان في أمنية الرسول أو النبي لا يتعدى إلى أكثر من الوساوس والأباطيل التي يمني بها اتباعه، ويمكن معرفة ذلك من التفريق بين الرسول والنبي باعتبار أن النبي لم يكن لديه ما يقرأه إذا ما استثنينا الأنبياء الذين ورثوا التوراة. من هنا نعلم أن الشيطان لا يقدر أن يدخل في القرآن ما ليس فيه وإنما يستطيع أن يضل الناس ويفسد أفكارهم، وهذا ما أشار إليه تعالى بقوله: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون) الأنعام 112.
ثانياً: قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) النساء 43. يذكر ابن كثير في سبب نزول هذه الآية مجموعة من الروايات التي لا يقبلها عقل سليم أو دين، أهمها ما رواه عن ابن جرير عن محمد بن بشار عن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن علي: أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ: (قل يا ايها الكافرون) فخلط فيها فنزلت: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) وهكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث الثوري به، ورواه ابن جرير أيضاً عن ابن حميد، عن جرير، عن عطاء، عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال كان علي في نفر من أصحاب النبي (ص) في بيت عبد الرحمن بن عوف فطعموا فأتاهم بخمر فشربوا منها، وذلك قبل أن يحرم الخمر، فحضرت الصلاة فقدموا علياً فقرأ بهم: (قل يا أيها الكافرون) الكافرون 1. فلم يقرأها كما ينبغي، فأنزل الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) النساء 43. انتهى والحديث مطول من أراده فليراجع تفسير ابن كثير، والحقيقة أن هذه الروايات وأمثالها لا يمكن أن تصدق أو تناقش، ثم أي خمر هذا الذي يشرب بعد الأكل.
ثالثاً: قوله تعالى: (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) النور 22. الآية نزلت في أبي بكر إلا أنها لا تقتصر عليه وإنما تجري في غيره إلى يوم القيامة.
رابعاً: قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد) البقرة 207. قيل نزلت في صهيب وقيل في علي.. لكن في حالة مقابلتها مع قوله تعالى: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام) البقرة 204. يظهر أن اللفظ عام.
خامساً: قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) المائدة 55. الآية لم تنزل في علي بن أبي طالب، وذلك لأن السياق لا يدل على أنها تشير إلى شخص بعينه، والرواية التي تناقلها جمع من المفسرين ويذكر فيها أن الإمام علي قد تصدق بالخاتم لا تليق بمكانته، باعتباره من الذين وصفهم الله تعالى بقوله: (قد أفلح المؤمنون***الذين هم في صلاتهم خاشعون) المؤمنون 1-2. وقد بينا هذا المعنى في مقال سابق نشر في إيلاف عام 2008. وكان بعنوان.. ويؤتون الزكاة وهم راكعون.
سادساً: قوله تعالى: (عبس وتولى***أن جاءه الأعمى) عبس 1-2. الآية تخاطب النبي وليس ابن أم مكتوم الذي وصفه تعالى بالأعمى، وهذا الوصف يتناسب مع عدم تاثيره بما تلقاه من النبي وذلك بشهادة السياق الذي يظهر فيه لطف الله تعالى في الخطاب الموجه إليه وانتقاله من الغيبة إلى الحضور في قوله: (وما يدريك لعله يزكى***أو يذكر فتنفعه الذكرى) عبس 3-4. ويستمر السياق بنفس الخطاب إلى نهاية الآية العاشرة وهذا يدل على أن المخاطب هو من نزل عليه القرآن الكريم، أما من يريد أن ينسبها لغير النبي (ص) فهو بلا شك يصبح كالقدرية الذين أرادوا أن يصفوا الله تعالى بعدله فأخرجوه عن سلطانه، وقد بينا هذا المعنى بالتفصيل في مقال سابق على جزئين نشر في إيلاف عام 2007. وكان بعنوان.. عبس وتولى في محكمة القرآن الكريم.