كشفت الربيع العربي على أن العرب ظاهرة صوتية، على وصف الكاتب السعودي عبد الله القصيمي، يرون قدرتهم على اللغو الثرثرة إنتاجا للمعرفة، وقبولهم لدى الغوغائيين وأنصاف المتعلمين علامة على التفوق.
وتحول وصف القرآن لهم بأنهم يستمعون القول فيتبعون أحسنه إلى اقتناع بأنهم الأحسن، ما أفقدهم القدرة على الاستماع. فكثيرون هم الدين لا يستمعون بل ينفعلون ويخطبون ويصيحون حتى قبل الاستماع، فلا ينتجون إبداعا ولا فكرا، بل يكتفون باللفظ المنمق عن الرأي المحقق على حد تعبير أبي حيان التوحيدي.

يتشح الغيورون بالسواد على مصير مدن مثل دمشق وبغداد وصنعاء والبصرة وغيرها، من المدن التي صارت أوكارا للتطرف والتشدد والأصولية الدينية والإقصاء وأحادية الرأي. حين يتذكرون تاريخاها كمنارات في العلم والمعرفة، تُشد إليها الرحال من كل الأقطار والبقاع. وتتسع لمختلف الأفكار وأنماط العيش، مقدمة أسمى صورة على التلاقح الحضاري والتعايش الإنساني الراقي.

لخص المفكر التونسي الطاهر حداد ما يعيشه العرب اليوم في قولة بليغة: quot;إن الإسلام ثورة على القديم، ونداء لتحرر من تقليد الآباء، وبعث لحياة التجدد والتوليد، ولكن المسلمين هم من حولوه بتقديس أسلافهم واحتقار أنفسهم إلى سد منيع بينهم وبين الحياةquot;.

يحفل التاريخ بالتجارب التي تثبت ما ذهب إليه حداد، وتبرز واقع التعددية والتنوع التي عرفها التاريخ العربي الإسلامي في كافة المستويات وعلى جميع الأصعدة. فلا يسع المرء وهو يطالع كتب التاريخ سوى الحسرة على مراحل مشرقة منه، على هديها رسمت أوروبا خطى حداثتها، ومنها اقتبست نور أنوارها الذي أضاءت به طريق الرقي في مدارج المدنية.

ولنا في تجربة المعتزلة (العقلانيين الأوائل) بمناظراتهم البرهانية وسجالاتهم الفكرية المتوقدة في الإمامة والسياسة والأديان وغيرها من المعارف الإنسانية، نموذجا يستحق أن يقتدى به في التسامح والتعددية وقبول الآخر. وأسهموا أيضا في نقل الفكر الاسلامي آنئذ نحو العالمية، فقد تناظروا مع ملاحدة الدهرية والمانوية والهندوس واليهود والمسيحية وغيرهم من ذوي المعتقدات المخالفة في احترام تام لهم، والتزام أصيل بالحجة والدليل والبرهان.

وتوالت محطات الإشراق والتنوير في السياق العربي تخبو وتزدهر بحسب الظروف والأحوال، ففي تجربة الأندلس شهاب من شهب التنوير العربي مع ثلة من الأسماء التي لمعت في سماء قرطبة (ابن رشد، ابن فرناس، ابن حزم، ابن عربي، ابن زيدون...) مقدمة رسالة إنسانية لا تؤمن باللون ولا بالعرق ولا بالجنس ولا بالدين، بل كل إيمانها هو إنسانية الإنسان.

لتكون آخر الشهب في سماء التنوير العربي ما عرف بفجر النهضة العربية الحديثة، التي جاء روادها لاستئناف مسيرة التنوير في مختلف المجالات فالأفغاني وأديب إسحاق وعبد الله النديم وغيرهم اشتغلوا في الفكر التحديثي، بينما الطهطاوي وخير الدين التونسي وأحمد لطفي السيد وطه حسين بحثوا الفكر الليبرالي، أما شبلي شميل وفرح أنطون ويعقوب صروف وآخرون فانهجسوا بالفكر العلمي. غير أن الظروف السياسية والاجتماعية التي لازمت تلك الفترة أفضت إلى كبوة النهضة وارتداد التنوير العربي وانحساره.

منذ ذلك الحين والأسئلة تتواتر عن عوامل انطفاء جذوة هذه الحضارة التي أبهرت العالم بضيائها؟ وعن دواعي التنكر للمحطات المشرقة من تاريخنا والانتصار لمراحل التقليد والجمود؟ وما هي مسببات تكلس العقل العربي واستقالته من التفكير؟ وكيف فضل الغرق في لجج الظلام والأمم من حوله تقطع الأميال في طريق المدنية والتنوير؟ ثم لماذا تُحسم نتائج معركة قوى التحديث والتنوير ضد القوى المحافظة والأصولية لصالح هذه الأخيرة في مختلف تجارب التنوير العربي؟

أسئلة نطرحها ليس فقط حنينا إلى الماضي التليد، وحسرت عليه بعد أن سادت الماضوية لدعم الفكر الديني المحافظ، ولكن أيضا إيمانا منا بأن quot;العقل العربي المستقيلquot; على حد تعبير الراحل محمد عابد الجابري، قد بدأ يستعيد عافيته ورشده من خلال قيادته للثورات العربية التي شكلت انعطافة كبرى في التاريخ المعاصر.

عقل عربي استطاع أن يرسم مسارا جديدا في التاريخ على درب الحرية، لا شك قادر على أن يتجاوز كل المطبات، من خلال الانصات إلى الأصوات المتباينة دفاعا عن العقل، وإعادة النظر في المسلمات والبديهيات... سعيا لميلاد نهضة عربية جديدة كما اجتهد التنويريون الأوائل.

*كاتب مغربي