كل تنوير في تاريخ البشرية لم يكن مرده إلى أولئك الذين ادَّعَوا quot;الحق الإلهيquot;، بل إلى من راهنوا على quot;الحق الطبيعيquot;. لطالما ارتبط من راهنوا على الحق الإلهي بالحروب والأزمات. كان لديهم المنطق الدوغمائي المتجاوز الذي جعلهم يدوسون على التاريخ والأفكار والبشر. أما أصحاب المنطق الطبيعي فهم من ارتبطوا ولزموا السنن الكونية والواقع التجريبي وتحركوا على وقعه. صحيح أن هذا الوقع بطيء ولا يحقق القفزات العظيمة التي ينتظرها أصحاب من ارتبطوا بالحق الإلهي، لكن التاريخ يثبت أنها هي الفاعلة وهي من تنتصر في النهاية.

الغرب لم يكن له أن يسود البشرية اليوم لولا أنه قفز قفزته التنويرية عبر البعد الطبيعي التجريبي. لقد سادت نظرية quot;الحق الطبيعيquot; لدى مفكري الأنوار في القرن الثامن عشر، بعد أن استلهموها من منظرين سابقين كغروتيوس وهوبز وسبينوزا ولوك. لقد نظروا للحق الطبيعي لا كقوانين محددة، بلquot;قيم مجردة يمليها العقل على حياتناquot;. إنها تفعيل العقل، وهذا يصدم بعض الذين يعتبرون العقل حاضرا، بينما هو غائب. غائب تحت أطنان من التنظير والأفكار والتقليد والأعراف، لذا كان الحل لإطلاقه يتمثل في التجريد، وتحريره من كل هذه العلائق والعوائد. هناك نقطة توقف وتجمد في حياة الأفراد والأمم، لا يمكن المرور عبرها إلا بالتحرر، والتخلص من التراكمات الثقيلة. ويصح هذا الحديث بالذات في حال ثقافة سلفية تمجّد التراكم، وترزح تحت وطأته!. لابد من التخفف، وإعادة العقل إلى ما هو أساسي وطبيعي وبديهي. لو جمعنا أطفالا متنوعين وطرحنا عليهم أن ينظموا أنفسهم في اللعب، لوجدناهم يمارسون المساواة، ويتفوقون على أنفسهم حين يكبرون، بعد أن يكونوا قد تنمطوا على وقع المدرسة والمجتمع والمسارات الثقافية القاهرة للدولة الشمولية. إن الحق الطبيعي منهج انطلاق يحرر من إرث ثقافات بائدة، وهذا ما أحسنه مفكرو التنوير في زمانهم.
إن مفكري الأنوار مثلنا، كانوا يعانون من بيئتهم التي لديها انشداد ثقافي للتاريخ، وأساطير quot;العصور الذهبيةquot; السابقة.. ولذلك كان التجرد ممثلا في الاعتماد على الحق الطبيعي حجر زاوية لهم. فتحدث فولتير عن أن القوانين الطبيعية تنبثق عن الله وأنها مقدسة. وروسو انطلق مما هو طبيعي، وإن كانت مؤلفاته تحوي في داخلها جدلية حول الموقف من الطبيعي وإمكان التأسس عليه أو تجاوزه. وديدرو قال quot;إن الطبيعة هي التي تسم جميع القوانين الصالحة، أما المشترع فهو الذي يعلنها ويعممهاquot;. ولذا فعند ديدرو ورفاقه من أصحاب quot;الموسوعة الفلسفيةquot; كان المفهوم الجوهري للنظرية الاجتماعية والسياسية هو quot;طبيعة الإنسانquot;؛ لأنهم يرون أن الإنسان يبقى ثابتاً لا يتبدل، وهنالك quot;ماهيةquot; مستقرة له يمكن الإمساك بها وتعرف احتياجاتها وميولها على الدوام، كما نقل عنهم فولغين صاحب quot;فلسفة الأنوارquot;.
لقد ذكر أصحاب الموسوعة أن الإرادة العامة صالحة على الدوام quot;لم تضلل أحداً في الماضي، ولن تضلل أحداً في المستقبلquot;. وهذا يتفق مع ما يقوله العلم الحديث اليوم. ففي علم الاجتماع المعرفي؛ يخبر كارل مانهايم أن المعرفة نسبية، وتتشكل اجتماعيا.. ومن هنا يكتسب القول والرأي والعُرف أهمية كون الجموع قد قالت به. نحتاج أن نعتبر برأي الجموع اليوم بعد إعادة التأكيد على الجانب العقلي في بناءه. إن المجتمع وسط طبيعي لا يتطرف. من الممكن أن يتعرض لأدلجة حامية ومتطرفة، لكنه لا يلبث أن ينفض عنه كل الزوائد والتنظير الذي أضيف له ليعود إلى طبيعيته، ويتأمل مشاكله وعقباته بروح جديدة تركز على روح المبادئ وفطرة الإنسان فيها. يشير أستاذ علم الاجتماع محمد بامية صاحب كتاب quot;اللا سلطوية كنظامquot; إلى حاجة المجتمع لتعزيز استقلاليته عن الدولة، حيث تستطيع الثقافة الشعبية أن تطور مفاهيمها اللاسلطوية، وأن تزدهر الحياة عبر المنابع الذاتية للمجتمع، لا أن يصبح المجتمع موضوعا تستخدمه السلطة وأدواتها.
إن مبدأ القانون الطبيعي معتبر به وموظف في سياق الدراسات القانونية الحديثة اليوم، ومن باب أولى أن نجعله بابا للاستنباط والدراية في المسائل السياسية والاجتماعية أيضاً. نحتاج للتأسس على ركن متين، أي على الأرض التجريبية الصلبة، ولكن هذا ما تفتقر له ثقافتنا: الجرأة. فهي ثقافة الترديد والغرق في التاريخ وطلب الحلول السهلة المتراكمة والجاهزة، وعدم الثقة بالذات حين تعود إلى منطقة صفرية للبناء من جديد. يصفها العروي بأنها ثقافة اعتمدت الاتباع ونبذت الابتداع ما أدى بدوره لأن يجعلها quot;ثقافة سمع ولسان، في تعارض بارز مع ثقافة عين ويد التي قوامها الملاحظة والممارسةquot;(السنة والإصلاح، 143).
إن المصلحة -واستخدم بعضهم المنفعة- هي المذهب المعطل في ثقافتنا.. ورغم كثرة تأصيل هذا المفهوم فإن في نقص الجرأة الفكرية تغييب له. والمصلحة هنا بمعناها المبادئي، الذي يخدم الإنسان واجتماعه. لدينا في ثقافتنا نقص حاد في الارتباط بالتجريبية والطبيعية. طالعت كتابا اسمه quot;الفطريةquot; لمفكر إسلامي ووجدته يناقض الفطرية، فالفكر الإسلامي لايزال غارقا في المثالية وما ينبغي وما يفترض، ولا يقرأ الواقع كما هو. ولم أجد كاتبا في ثقافتنا حاول أن يقدم تفسيرا عقلانيا أو شبه مادي للتاريخ إلا وتعرض للشتم والسخرية. لقد تساءل الجابري مرة لماذا أدت فكرة quot;حالة الطبيعةquot; و quot;العقد الاجتماعيquot; إلى تبلور مفهوم quot;حقوق الإنسانquot; في الفكر الأوروبي، بينما فشلت أفكار مثل فكرة quot;الفطرةquot; وفكرة quot;الميثاقquot; في تحقيق نفس الأمر في ثقافتنا؟!.
أذكر مدرسة فكرية جريئة لم تأخذ حظها في الانتشار، دللت عليها مؤلفات محمد إقبال ومالك بن نبي وجودت سعيد. وهي تجريبية أكثر من غيرها في السياق الإسلامي، تُحيل إلى متابعة آيات العيان والمشاهدة، وتنزع دوماً لأن يكون المرجع عند النزاع quot;الحقائق الخارجيةquot; لا quot;الصور الذهنيةquot;. مثل هذه المدارس تحتاج إلى أن تولد وأن تتمرحل وتبني على مسارها، فالالتصاق بالحقائق والتجرد لها ينقذ من ركام العوالق السابقة. ورواد الإنسانيات الحديثة ركنوا في البدايات للطبيعة في مفاهيمهم وعناوين أطروحاتهم. لذا سمّى أوغست كونت مؤسس quot;علم الاجتماع الحديثquot; علم الاجتماع بالفيزياء الاجتماعية، وقسّمه على غرار الفيزياء الطبيعية إلى quot;ستاتيكquot; وquot;ديناميكquot;. ومثله فعل ماركس حين استعار مفاهيم مثل quot;قوى الانتاجquot; وquot;رأس المال الثابت وquot;المتغيرquot;... وفرويد أيضاً استعار مثل هذه المفاهيم في التحليل النفسي، كـ quot;الإسقاطquot;، وquot;التصعيدquot;، وquot;الإنفاقquot;.
في حال سيادة التنظير، يغرق التنظير في التنظير. تتخبط الأمة في اللغو، ويسود اللجاج، فكل ما أثبت بالجدل يُنقض بالجدل. ولذا احتاجت الأمة لأن تحقق القفزات، ولأن تتواضع أمام المعضلات، وأن تتخلى عن ما تعتقده وعن انطباعاتها الآنية؛ لأجل أن تضيف لنفسها رؤية جديدة ومعرفة أكثر شراسة وواقعية. لكن في مراحل الانكسار والأزمات؛ يلجأ الناس للنخب، والويل لنا حين تكون هذه النخب ممن يدعون حقا إلهياً يعرفونه ولا يعرفه الفرد العادي (الفرد الطبيعي في أبسط تجلياته). هنا نحن في أزمة أخرى؛ لأنهم سيستخدمون الفصاحة واللغة، سيستخدمون مكانتهم ووجاهتهم لتمرير هذه الأفكار، سيستخدمون حاجة السياسي لهم وركونه إليهم، سيستخدمون ضعف الناس وفقر وسائلهم، وسيتجاوزوننا كأفراد لا يوجد لدينا وسيلة للتقييم والنقد وإيصال الصوت.
ما أردت قوله هو أنه حال الانتقال من الفكر التنظيري الغيبي أو التاريخي الأسطوري إلى الفكر العقلاني؛ لا بد من اللجوء إلى ركن متين، وهذا يتمثل في الفكر الطبيعي التجريبي، الذي يخلخل ويغير كل ما لا يقدر على البقاء من زوائد الأفكار والانطباعات.. ويعيد إلى ماهو أساسي وثابت للبناء والانطلاق من جديد.