ذات يوم وفي أيام فتوتي سمعت أحدهم يقول ولا أدري هل القول له أو نقله عن آخر: "الثورة تأكل رجالها كما تأكل النار الحطب".

ومنذ ذلك الوقت عرفت أن درب الحرية يتم تعبيده بدماء الثوار وأبنائهم وأحفادهم (كما حصل لأبناء اسماعيل هنية وأطفالهم الذين استشهدوا بغارة إسرائيلية ظالمة على سيارتهم) فالثورة تعني بناء صرح حياتي جميل وزاه وسعيد للجيل الحاضر والعمل على وضع الأساس القوي لمستقبل زاهر للآجيال القادمة، بالرغم من أنَّ الثمن باهظ، ولكنه لا يوازي الثمن الذي يقدمه الفلسطينيون اليوم على طريق نيل حريتهم من الاحتلال واستعادة أرضهم المغتصبة.

الشعب الفلسطيني بمختلف فئاته وانتماءاته فرضت عليه ظروف احتلال أرضه وارتكاب المجازر بحقه وتشريده منها من قبل المحتل منذ الأيام الأولى للاحتلال أن يتحول إلى شعب ثوروي على مستوى الرجل والمرأة والطفل وحتى الشيخ، وأن يسلك الطريق الثورية بمحتلف أنواع المواجهه العسكرية والثقافية والفكرية على مستوى الكفاح الأيديولوجي والنضال الثقافي وعلى مستوى المواجهة الفكرية وعلى مستوى الجهاد العسكري.

لذلك كان هذا الشعب ثائراً بمعنى الكلمة ومتكامل الصفات الثوروية وقد دخل ساحات المواجهة مع العدو المحتل وعلى كل جبهاتها بكل اقتدار ثوروي وبكل عنفوان كفاحي من أجل استعادة حقوقه في أرضه التي اغتصبها منه بالقوة الغاشمة وبمساعدة الاستعمار الكولنيالي البريطاني في بداية تأسيسه، وبدعم متواصل اليوم من قبل أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وكافة الدول الأوروبية على مستوى الانتماء الأوروبي وعلى مستوى التحالف والتكتل المتمثل بالانتماء إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهذا يوفر لإسرائيل اليوم دعماً متعدد الأوجه بمختلف أشكال الحاجات والسلع والبضائع، وهي إمكانات دعم هائلة وضخمة، ويأتي في المقدمة منها مختلف أنواع الأسلحة المتطورة والفتاكة وآلاف الأطنان من الذخيرة.

وبالرغم من كل ذلك الدعم، فإنَّ إسرائيل فشلت في تحقيق أي هدف من أهدافها التي أعلنت عنها خلال هجومها البري والجوي والبحري على غزة منذ ستة أشهر رداً على عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي، والتي نفذتها فصائل المقاومة الفلسطينية من حماس وفصائل المقاومة الأسلامية الأخرى. وكما قال الأمين العام للأمم المتحدة غويتريتش في تقييمه لهذه العملية على انها لم تأت من فراغ، فإسرائيل اعتدت على الشعب الفلسطيني وصادرت أرضه وسلامة أمنه في العيش بأمن واستقرار، أي أنَّ الرجل اعترف بمشروعية عملية الطوفان.

واللافت للنظر أن اسرائيل لم تلجأ إلى عمليات الاغتيال ضد قادة حماس البارزين إلا بعد فترة من اجتياحها البري لغزة، والذي فسره بعض المحللين والمراقبين لمسار الحرب على أنه دليل على فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها من الحرب.

إنَّ سياسة الدفاع عن الأمن القومي الإسرائيلي تعتمد من الناحية العسكرية على أربع ركائز وهي باختصار: الإنذار المبكر والردع والدفاع والحسم السريع.

ومن أهم الركائز التي اعتمدتها إسرائيل في حربها في غزة هي ركيزة الردع والتي كانت تعول عليها كثيراً في إجبار المقاومة الفلسطينية على الاستسلام، لذلك هاجمت المجتمع المدني الغزاوي بضراوة وكبدته الكثير من الخسائر البشرية، ناهيك عن تدمير المساكن والمساجد والمستشفيات فضلاً عن مقومات البنية التحتية.

إقرأ أيضاً: غزة وانتهازية الرئيس الأميركي

ولكن يبدو أن إسرائيل أيضاً رأت أن الردع بالفظائع الذي ذكر أعلاه لم يكن ناجعاً، ولم يكن مجدياً، لأن المقاتل الفلسطيني مسلح بالأيدولوجية النضالية وهو مفعم بالروح الثوروية المتشربة في دمه ومجرى روحه وبحماسة لا يوقف مدها أي ضغط تجويعي أو دموي أو تخريبي أو غيره من مقومات ما يسمى "الردع بالفظائع" لتخويف وردع من يقف في وجه إسرائيل من الفلسطينيين.

لم تنجح المقومات الإجرامية الإسرائيلية للردع بالفظائع فاضطرها ذلك إلى اللجوء إلى الإنتقام، فاغتالت أبناء هنية الثلاثة مع أربعة من أطفالهم وهم مجموعة مدنية في سيارة مدنية خصوصية عزلاء من أي سلاح، وقد رفضت الصحف ووسائل الإعلام الإسرائيلية قبل غيرها من وسائل الإعلام العالمية والإقليمية الذريعة الإسرائيلية بنيتهم القيام بعمل إرهابي، ومنها صحيفة "هآرتس" العبرية التي فندت ادعاء إسرائيل أنَّ أبناء رئيس المكتب السياسي لحركة حماس كانوا بطريقهم لتنفيذ "نشاط إرهابي"، معتبرة أن تلك المزاعم "غير مقبولة".

وفي مقال تحليلي في "هآرتس"، قال مسؤول الشؤون الفلسطينية بالصحيفة إن ادعاء إسرائيل بأن أبناء هنية كانوا بطريقهم لتنفيذ نشاط إرهابي "لا يقبله حتى معارضو حماس، خاصة وأن أطفالهم كانوا معهم".

إقرأ أيضاً: وقاحة المسؤولين الصهاينة

إنه دليل على حالة الإحباط النفسي الذي تعاني منه القيادتان السياسية والعسكرية لإسرائيل، ففتشت في أوراق أعمالها الإجرامية فلم تجد أمامها سوى الانتقام من قادة حماس بعوائلهم من الأبناء والأطفال.

إنَّ رجلاً ثوروياً مثل هنية الذي اختار طريق الكفاح والنضال من أجل استعادة تراب الوطن المحتل وقيام الدولة الفلسطينية لا تهزه ولا تأخذ من عزيمته مثقال ذرة عملية اغتيال أبنائه وأحفاده بغارة إسرائيلية جبانة، وإنما تشكل منعطفاً حماسياً جديداً له في مقامه الثوري نحو الإصرار على مواصلة الكفاح من أجل تحرير كامل تراب فلسطين من المحتل.

إقرأ أيضاً: الصحافة الإسرائيلية والاحتفال المزيف

وكل القادة الأحرار لا تفت في عزيمتهم الثوروية العمليات الانتقامية التي ينفذها ضدهم أعداؤهم بشكل غير مباشر من خلال تنفيذها بأسرهم على مستوى الأبناء والأحفاد أو الأخوة والأخوات وغيرهم من الأقارب، وهذا ما يدل عليه تصريح هنية بعد أن تلقى خبر استشهاد أبنائه الثلاثة وأحفاده الأربعة بغارة إسرائيلية جبانة، فقد نقلت عنه وسائل إعلام قوله "بهذه الآلام والدماء نصنع الآمال والمستقبل والحرية لشعبنا وقضيتنا. أبنائي الشهداء حازوا شرف الزمان، وشرف المكان، وشرف الخاتمة".

بقي أن أقول إنه في هذه الشهادة المشرفة رداً على المتخرصين الذين قالوا إنَّ هنية هرَّب أبناءه إلى الخارج فقد تركهم مشروعاً للشهادة فالطريق الثورية لا يمكن تعبيدها إلّا بدماء الثوار لكي يواصل بقية الثوار سيرهم عليها نحو تحقيق الحرية والانعتاق.