بعيدا عن كثب (4)

مساء آخرُ جميل أقضيه على شرفتي بارتياح لم أعهده كثيرا... ربما بسبب البيرة التي اشتريتها قبل يومين: بيرة بلجيكية غامقة اسمها: الموتالفجائي (La mort subite) ما ألذها!.. شربت منها في هذا المساء كثيرا.. فكرت أن أكتب قصيدة:
غيمة سقطت من السماء
على قرية تعيش خارج الليل!

صورة عادية... رميت القلم جانبا، وعوضا، أخذت أتأمل هذا الهدوء المتسلل إلي. استغربته: كيف يمكن وثمة طنينذباب سمعه الجميع. آه! كم تغيرتُ... كم من مساء جميل ونهار رائق ضيعت في شبابي بسبب هذه الذبابة وتلك. هنا عرفت سبب هذا الارتياح والهدوء ومتعة الشرب والتنحي بعيدا.تذكرت بودلير ولا جدوى الشرح: إن الذي يريد أن يفهمك سيفهمك من دون أي شرح، وهذا الذي لا يريد أن يفهمك لن يفهمك حتى لو كتبت له مجلدات من الشروح! لكن مع هذا أود أن أكتب تقاسيم منفردةفي هذه الشخصية العراقية المنشطرة حالات ازدواج متناوب في كل من الشخصية والوعي.. وهذا هو عينمرض الهذاء العصابي...

عندما سقط نظام صدام، تفاءلت، هذا صحيح، كمثل عدد من أصدقائي. شعرت أن هذه الحرب التي اسقطت كابوسا كبيرا، اعطت الفرصة للمثقف العراقي ليشتغل على نفسه، وإلا، كما قال رامبو، " فإنه لم يكن قد أستيقظ بعد، ولم يكن قد أوغل تماماً في الحلم الكبير!" على أن هذه الفرصة، ربما تراءت، لكنها قد تلاشت بين ثنايا الإرهاب العربي وطبيعة الشخصية العراقية: كلاهما يعمل على تدمير العراق: الإرهاب لايريد أنْ يستيقِظَ العراق من كابوس الدور الذي أعْطي لَهُ،فيسعى بكل دموية إلى الزام العراق بكل "المبادئ" التي دمرته.. والشخصية العراقية المحافظة على كل خلفيتها الولائية القديمة، تريد الانتفاع من تاريخ العراق الدموي فرصة للظهور والابتزاز...
ومَن يلقي نظرة على ما طفا من الثقافة العراقية، سيشعر بالقرف والخوف وكأنه في كورة زنابير: الوسِخ يرمي وسخَه على الآخرين حتى يشعر أنه نظيف... المشبوه يلقي الشبهة على آخرَ لكي يبدد شبهات حولَه.... البعثي السابق يهدد كل من يذكره بماضيه ويحارب اية محاولة أدبية قد تؤنب ضميره... وإذا صدف أن جاءت في مقالة لك عبارة "شعراء فاشلين"،سيتهمك أحدهم بأنك تقصده فيتقيأ كل ما في جعبتهمن ردح وقدح، رغم أنه يعرف أنك لاتعتبره حتى شاعرا فاشلا...أما ذلك الذي كان صوته يلعلع ضد نظام صدام، فإنه سكت فجأة بعد الحرب ولم ينطق بكلمةواحدة تساعدنا على معرفةموقفه بوضوح... يلعب على الحبلين: مع العربي يبكي وينوء من الاحتلال الأمريكي، ومع عراقي، ممكن الاستفادة منه، يبكي وينوء من الارهاب العربي.. كيف يمكن له أن يقول كلمة واضحة عن الإرهاب اليومي في بلده وهو في خدمة من يعتبر هذا الإرهاب مقاومة؟والأنكى، لا أعرف كم من واوي سيخرج متهما إياي بأني أقصده!

في "تربية عبدالقادر الجنابي" (دار الجديد – بيروت 1995) كتبت: "إذا كان لحرب تدمير العراق من حقيقة مرة فهي التالية: بعد انكسار سدّ الداخل، واندفاع المياه الى الخارج أخذنا نرى ذاك العراقي الذي، وهو طاف على سطح مجاري المنفى، (ينطق في اليوم الواحد بمائة لسان، ساعيا إلى زيد بما يقول عمرو وإلى عمرو بما يفعل زيدُ وإلى أحمد بما يقول ويفعل الاثنان)، ولأن طينة هذا العراقي اللاعراقي نجسة أصلا، فهو ما إن يُخدش، حتى يكشِف عن معدِنِه الثقافيّ الرديء فيتنصّل من كل الأفكار التي تطفّل عليها في الماضي عائدا إلى حظيرته. إنه متعطّش للشهرة ارتزاقا يدفعه إلى لحس إلية أيّ كان من أجل أن تُنشَر قصيدته البائسة، بل إلى حد التمارض متباكيا – متشكّيا عند هذا أو ذاك، فقط حتى لا تُكتشَف حقيقتُه بأنّه لا شيء، ويؤلمه أن يرى عراقيا حقيقيا يختلف عنه منهمكا في نشاط حرّ رجلاه طليقتان" (ص 108)...
ما أسوأ اليوم مقارنة بالأمس. فعالم الانترنت قد عرى كل شيء: أماط اللثام عن هذا النمط القاتل، الواشي، العبد من العراقيين... نعم هناك أناس نبلاء، وبما أن هذا الزمن ليس زمنهم، فلا أحد يسمعهم أو ينتبه إلى أعمالهم... إنهم قبوويون ومن الأفضل للعراق، إذا كان له أمل، أن يبقوا هكذا! وهم الوحيدون الذين استمد منهم طاقة الحلم بعراق مشجر بألف قصيدة... وإليهم أتوجه بهذا الكلام.

***

لكن... لكن.. كل هذه الملاحظات لم أشعر منها بجواب شاف. لابد ثمة جواب يشفي على الأقل بعض الغليل. لا أعرف أين. تذكرت أن مقالا قديما، بين أوراقي، لعالم الاجتماع عبدالجليل الطاهر حول "القوقعة والقلق في الشخصية العراقية".. وجدته بعد ساعات من البحث وأعدت قراءته... كم نحن في حاجة اليوم إلى دراسة الشخصية العراقيةسوسيولوجيا وثقافيا.ها هنا مقتطف من هذا المقال اليتيمقد يدفع هؤلاء -بدل تبديد هذه الطاقة في تصفية حسابات غير مدفوعة-إلى تأمل ذواتهم؛ اختبارها وحالما يعرفونها، عليهم تثقيفها:


(أهم الخصائص التي تتميز بها الشخصية العراقية هي:
1-أنها شخصية حية لأنها حصيلة صراع مستمر لكل تلك القواقع (جمع قوقعة) المتعارضة المتناقضة التي لم تستطع توحيدها وصهرها وتأليف كل منسجم منها فتعايشت في وجدانها قيم مختلفو تتهاون حينا وتتنزع أحيانا كثيرة فهي ليست مصابة بانشطار الوجدان كما يتصور البعض وإنما تقوم بأدوار متعددة ومتناقضة. لهذا تصف سلوكيتها بالجدية لأنها تعمل ضمن حدود قواقع متعددة، لغوية (عربية وكردية وفارسية وتركية وغيرها) وقبلية ومحلية ومدنية (نسبة إلى المدينة) وطائفية وايديولوجية.
2- تنتقل من قوقعة إلى أخرى بقفزة واحدة كما تقفز الضفدعة فتغير مواقعها إزاء القضايا الخاصة والعامة.
3- تمجيد الذات وتعظيمها بالرجوع إلى التاريخ – فالحاضر الذي يعيشه مصدر آلامه وشقائه والماضي ينبوع لأمجاده ومفاخره. وقعت الشخصية العراقية بين هاتين العقدتين فمرة تمجد ذاتها وأخرى تتهمها بالخيبة والفشل. تجد في نبش أمجاد الماضي عزاء وتسلية – بل تنكمش إلى الماضي هربا من حاضر مؤلم.
4- يعتز العراقي بكرامته وبشخصيته ويبالغ أحيانا في تكبير وتوسيع أبعادها – وترجع هذه الصفات إلى أصول تاريخية، كالأسرة والعشيرة والمحلة والقرية وغيرها لأن كل أصل من هذه الأصول يبذر في الوجدان نوعا من التعصب والتحيز والولاء. وكثيرا ما يوجه هذا الاعتزاز بالكرامة في المنازعات القوقعية.
5- الاندفاعات المفاجئة: تندفع الشخصية العراقية اندفاعا مفاجئا وتنفجر انفجارا غير متوقع حتى أن العراقيين في سلوكيتهم التي تهب مرة واحدة وتنطفئ مرة واحدة مثل "نار الحلفة". لقد اضطرت القواقع المتعددة ان يكون العراقي في حالة من الاستنفار والتربص الدائمة.
6- العقدة ضد السلطة: ترجع جذور هذه العقدة إلى العهود الغابرة حين كان الحكام غرباء أجانب، ظلاما مستبدين، فانقطعت كل صلة بين الشعب وحكامه، واستمرت رواسب هذه العقدة تحرك الشخصية العراقية.
7- السلبية عن طريق تأكيد الفردية: تتهم رواسب العقد النفسية المذكورة كل محاولة للمرونة والايجابية والانفتاح القوقعي بالمبايعات في المزاد السياسي. تؤكد الفردية والسلبية الفروق والاختلافات وعدم الثقة بالآخرين وقلة التعاون وكراهية الأنظمة.
8- المبالغة والتطرف: ونتيجة لفترات الحرمان الطويل تنطلق الشخصية متطرفة في التعبير عن أحاسيسها ومشاعرها سواء كانت أحاسيس المحبة أو مشاعر الكراهية حتى قيل في وصف الشخصية العراقية إذا أحبت عبدت وإذا كرهت داست بأقدامها نفس الشخوص والمواضيع.
9- الاستمرار في محاولة الحفاظ على الحدود النفسية والاجتماعية التي تفصل القواقع بعضها عن بعض باللجوء إلى مصطلحات قشرية وسطحية من المجاملات التي تحول دون نشوب نزاع مباشر بين شخص وآخر ينتميان إلى قوقعتين متنازعتين، والتي ترمز إلى الصداقة في المظهر ولكنها تحافظ على المسافات والأبعاد النفسية، وتتجنب طرح المواضيع الملتهبة ومناقشتها.
10-عقدة البطل الشعبي: يكمن في أعماق الشخصية العراقية حب حقيقي، تقدير منقطع للبطل الشعبي الذي تؤلف سيرته نواة صلبة في فضائل التراث الاجتماعي. ترمز حياته إلى طموح الجماهير المضطهدة، حولها نسجت الأساطير الشعبية صفحات رائعة. وتتضمن الشخصية العراقية إلى النقيض من ذلك عقدة كراهية الظالم والدجال. وبالرغم من مرور القرون العديدة تزال الذاكرة الجماعية تمجد الأبطال الشعبيين – النماذج الاجتماعية في التضحية والفضيلة.
11-العنف: تتميز السلوكية القوقعية القلقة بالعنف في معاملة الخصوم ولعل السبب في ذلك تراكم المظالم، وتجمع الحرمان، والانتظار مدة طويلة، وخوفا من فوات الفرصة، وشل حركة الخصوم. وترجع جذور هذه الظاهرة إلى الماضي السحيق: السومريون، الأكديون، والآشوريون والبابليون والأمويون والعباسيون.
12-سلوكية مزدوجة من العمل المكشوف والعمل السري: إذا كانت القواقع تخشى بعضها البعض الآخر، وترهب من "الأفعال" و"ردود الأفعال" فإنها تعمل على مستويين: الأول خفي وسري والثاني علني مكشوف. فالأول يعطي للشخصية القدرة على الانكماش إلى القواقع في الأزمات والحركة في المستوى المكشوف إذا سنحت الفرصة.
وخلاصة القول تتفاعل كل هذه العقد والمركبات النفسية والاجتماعية في وجدان العراقي فتوجه سلوكه، ويتحدد الدور الاجتماعي الذي يقوم به. ينتقل العراقي في حياته اليومية داخل عوالم نفسية متناقضة، يقوم الولاء في أحدها على مقاومة الولاءات الأخرى. فالفرد العراقي القلق يناضل من أجل تغيير الواقع الموضوعي لينقذ نفسه ويصنع تاريخه ويخطط مصيره، ويعمل لدعم وجهة نظر شاملة تسمو على الولاءات القوقعية، وبذلك تتعمق خبرته في التطبيق الإنساني النبيل، وتتفتح شخصيته، ويكثر إبداعها، وتتبلور، اخوة المواطنة، وتتكامل الشخصية. إن المجتمع الذي تتطلع إليه الطلائع المثقفة خال من الولاءات القوقعية ورواسب التحيزات؛ مجتمع تتوافر فيه المشاركة في شرف الخدمة العامة وتكافؤ الفرص كحد أدنى لقيام العدالة الاجتماعية.)

عبدالجليل الطاهر: "القوقعة والقلق في الشخصية العراقية" (المثقف العربي – بغداد عدد كانون أول 1969)