من وادٍ إلى تلة خضراء على وقع سمفونيات فاغنر
ميليس يؤرجح الكبار بين لبنان وسورية

إيلي الحاج من بيروت: بين تلة "مونتي روزا" الخضراء في سوريا ووادي "مونتي فردي" الأخضر في لبنان يؤرجح رئيس لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، القاضي الألماني ديتليف ميليس، رؤوساً كبيرة في البلدين، ويقول أحد مساعدي الأمين العام للأمم المتحدة ، وزير الثقافة السابق في لبنان غسان سلامة الذي يعرف الرجل أنه متلهف للعودة بسرعة إلى قصره الرائع على تلة خضراء في بلاده. ويكشف بعض من عرفوه أخيراً أنه يغرق في ملفات تحقيقاته على وقع سيمفونيات فاغنر التي لا تهدأ حيثما كان. فاغنر كان يوحي لهتلر البطش لكن ميليس الذي سمي بالذئب تغلب عليه مظاهر الثعلب قبل الانقضاض على فريسته بطريقة تناقض رومنسية الأمكنة التي يكون استجوابه فيها. هذا على الأقل ما فعل في لبنان، ماذا عن مهمته في سورية؟

ميليس عاد في ساعة متقدمة ليل أمس إلى مقره في فندق "مونتي فردي" المطل على بيروت، لينتقل صباحاً من جديد إلى مقر عمله الموقت في سورية . قيل أن بعض أعضاء فريقه باتوا ليلهم في "مونتي روزي" ولا شيء صدر رسمياً عن سورية في شأن مهمته على أرضها باستثناء النبأ الموجز الآتي : "وصل الى دمشق قبل ظهر أمس الثلاثاء، ومن المتوقع ان يلتقي عددا من الاشخاص السوريين بصفة شهود في اطار المهمة الموكلة اليه".
لكن الوكالة العربية السورية للأنباء (سانا) أضافت نقلاً عن أحد مندوبيها أن "زيارة القاضي الألماني الى دمشق قد تستمر حتى نهاية هذا الاسبوع". ونهاية الأسبوع في سوريا تعني الخميس بخلاف نهايته في لبنان السبت ، أي أن ميليس يواصل اليوم وغداً استجواباته للضباط السوريين "الشهود".
ورغم التكتم اللرسمي في دمشق سرعان ما كشفت وسائل إعلام خاصة ، عربية وأجنبية أن ميليس يستجوب شهوده في مجمع "مونتي روزا" السياحي القريب من بحيرة زرزر والواقع على تلة خضراء في منطقة الزبداني التي تبعد عن حدود سورية مع لبنان 17 كيلومتراً. ولوحظت اجراءات امنية مشددة في محيطه شملت تركيز دورية أمنية مهمتها قطع الطريق على الصحافيين كل من يود الاقتراب من المجمع، الذي طليت جدرانه باللون الزهري ليصبح اسماً على مسمى . كما شوهدت دوريات أمنية على طرق فرعية تؤدي الى المجمع السياحي الذي قطعت الاتصالات الهاتفية عنه .

وقالت مصادر سورية لصحافيين أن إبعادهم عن المكان هو تلبية لطلب تقدم به رئيس لجنة التحقيق الدولية نفسه الى الحكومة السورية عند زيارته الاولى لدمشق في 11 أيلول(سبتمبر) الجاري.

شروط اتفاق... وتحقيقات بالعربية

وكان في استقبال ميليس المستشار القانوني في وزارة الخارجية السورية رياض الداودي، الذي رافقه من المعبر الحدودي إلى المجمع السياحي.
ولم يعرف مع أي من الضباط السوريين بدأ اجراءات الاستماع، لكن اوساطا متابعة رددت أنه لن يستمع خلال زيارته الحالية إلا إلى وزير الداخلية اللواء غازي كنعان الذي كان رئيس جهاز الأمن والاستطلاع في لبنان من عام 1982 إلى عام 2002، وخليفته في هذا الموقع العميد رستم غزالة ومساعده في بيروت العميد محمد خلوف ومساعده الآخر العميد جامع جامع الذي كان مسؤولا عن منطقة الفنادق ووسط بيروت حيث وقعت جريمة الاغتيال. وهذا يتفق مع ما ذكرته مصادر عن الاتفاق المتعلق باجراءات الاستماع الى الشهود الذي وقعه ميليس مع الخارجية السورية ، وهو من ثلاث نقاط:

-النقطة الاولى ، أن تكون هناك محاضر لجلسات الاستماع بالعربية مذيلة بتواقيع كل من اللجنة والشهود.
- النقطة الثانية تتعلق بحصول الشهود على محامين سوريين ربما تعينهم الدولة لأن بعض من سيستمع اليهم ميليس هم مسؤولون رسميون. ولم يتضح ما إذا كان لهم الحق في حضور كل جلسات الاستماع.
- النقطة الثالثة الأبرز والأهم في الاتفاق، تقضي بأن يقدم ميليس قائمة بأسماء الشهود الذين يريد الاستماع اليهم، وجدولا زمنيا للقائه بهم. وقالت مصادر سورية ان "هذه النقطة ضرورية لئلا تتلقى دمشق طلبات لعقد لقاءات فجائية مع شهود مفترضين، كأن يتم طلب أحدهم للشهادة في ساعة الفجر مثلاً وهذا لا يجوز". وأضافت ان ميليس "قد يحتاج الى جلسات صباحية ومسائية لإنجاز الاستماع الى شهود" غداً.

وقال نائب رئيس الوزراء السوري عبد الله الدردري، في مؤتمر صحافي في دمشق، ان "ميليس يتحدث إلى المسؤولين الامنيين السوريين كشهود، وهو لم يتهم أحدا"، مضيفا أن "من مصلحة سوريا خدمة التحقيق لأن مصلحتها في الكشف عن حقيقة من قتل الحريري ولهذا وافقنا على التعاون الكلي مع اللجنة"، واستبعد الدردري أن تؤثر الضغوط والظروف المحيطة بسورية على استقرارها، مستشهدا "بتوقيع الحكومة السورية عقودا ببلايين الدولارات في الأشهر الأخيرة".

وفي بيروت أضافت المعلومات الصحافية إلى لائحة من يفترض أن يلتقيهم ميليس اللواء آصف شوكت رئيس جهاز المخابرات العسكرية حاليا ، وهو خلف في هذا الموقع العميد حسين خليل الذي تردد ان مساعده العقيد محمد صافي زود لجنة التحقيق معلومات مهمة، وكذلك اللواء بهجت سليمان الذي كان مسؤولا عن جهاز المخابرات العامة وأقصي عن هذا المنصب قبل اشهر . ويتردد ان هناك احتمالا لتوسيع دائرة الاستماع كي تشمل قائد لواء الحرس الجمهوري وشقيق الرئيس السوري ماهر الاسد.

محاور الاستجوابات

وستحاط تحقيقات ميليس في سوريا بتكتم وسرية شديدين يصهب معهما معرفة خلاصتها قبل صدور التقرير النهائي، لكن الأكيد أنها تستكمل الصورة التي كوّنها في بيروت، وهي تركز على النقاط الآتية: العلاقة بين الرئيس الحريري والقيادة السورية وما وصلت إليه في الاشهر الاخيرة منذ اتخاذ قيادة سورية قرار التمديد لحليفها رئيس الجمهورية الحالي في لبنان إميل لحود ، وقائع اللقاءات الاخيرة بين الحريري ومسؤولين سوريين التي جرت سواء في دمشق او بيروت، تبيان طبيعة العلاقة التي كانت قائمة بين جهاز الامن والاستطلاع السوري في لبنان ، ومقره في بلدة عنجر البقاعية وما اصطلح على تسميته "النظام الأمني اللبناني" ، وكذلك المرجعية التي كانت تتحكم في سورية بأنشطة "جهاز الامن والاستطلاع للقوات السورية العاملة في لبنان"، وفق التسمية الرسمية ، فضلاً عن طرق العمل في الاجهزة الأمنية السورية.

ويلاحظ في بيروت أن التعاون السوري مع ميليس جاء محاطا ومثقلا بشروط و "قيود" اجرائية . فالتحقيق لا يتم على اساس مذكرة تفاهم بين اللجنة الدولية والسلطات في دمشق على غرار ما كان الحال بين لبنان واللجنة الدولية، وبالتالي يستدعي التحقيق مع الشهود وضع جدول مسبق بالأسماء والمواعيد ، ولم يضع الجانبان آلية لتوقيف الشهود في حال الاشتباه بهم او لاتخاذ اي تدابير في شأنهم، كما ان الاستجوابات تجري في حضور دبلوماسيين وقانونيين بحيث تبدو اقرب الى " مفاوضات أمنية" منها إلى جلسات استجواب ، تبدو معها مهمة ميليس في سورية مشوبة بإشكالات قضائية وقانونية واجرائية.

ماذا بعد ميليس في سورية؟

وترافقت موجة التشكيك السياسي الواسعة في سورية بمهمة ميليس مع بلبلة في الشارع السوري بسبب حجم الاشاعات والتسريبات المفتعلة وترقب المفاجآت والتداعيات السياسية الممكنة . وهي تراوح بين تغيير حكومي حداً أدنى وتغيير في النظام على قاعدة اقصاء الحرس القديم والرموز الامنية حداَ أقصى.

ويسود الاوساط السياسية والدبلوماسية رأيان في مهمة ميليس بشقها السوري. الاول ان التحقيقات مع المسؤولين السوريين مفصلية وحاسمة في اكمال الصورة أو "البازل" بشرط ان يتوافر تعاون سوري جدي فيها ومن دونها سيظل التحقيق الدولي يعاني "حلقة اساسية مفقودة". والثاني ان نتائج الاستجوابات في سوريا ليست ذات اهمية قصوىلأنها لن تفيد التحقيق بمعلومات ومعطيات جديدة ومهمة، ولأن ميليس أنجز ملفه ولم تعد تنقص تقريره النهائي الا شكليات واعترافات قد ينجح او يخفق في انتزاعها من السوريين.

يبقى الأكيد في الحالين أن مصير النظام السوري بات يتوقف على نتائج التحقيق الدولي في الجريمة. فاذا ما توافرت أدلة حول تورطه في الاغتيال واستمر التحقيق في مساره الجاري فسيكون النظام في وضع صعب ويضيق الخناق الدولي عليه، أما اذا ظل خارج دائرة الاتهام لعدم كفاية الدليل، فيفلت من "مكمن ومأزق" ويجتاز" القطوع الأصعب "منذ تسلم الرئيس بشار الاسد مقاليد الخلافة في عاصمة الأمويين. أما الباقي فمتروك للتحليلات والمعلومات المفتقرة إلى سند، وهي واسعة كالبحر. منها ما نقل عن اوساط دبلوماسية غربية في بيروت تطرح المعادلة الآتية: بقاء النظام السوري في مقابل تدفيعه أثماناً متعددة الشكل والأهمية ، أحدها المساهمة في نزع سلاح "حزب الله" في لبنان . يقتضي ذلك بالطبع سيناريو تكثف فيه الإدارة الاميركية ضغوطها على نظام الأسد إلى حد لا سابق له ليقدم على الخطوات الحساسة المطلوبة منه كما رأينا وسنرى . لكن التكهنات حول مستقبل سورية السياسي في هذه المرحلة باب يفتح مجهول بدليل حدس الناس فيها الذين يهرعون إلى شراء الدولارات مهما يكن الثمن.