نشر صامويل هانتينجتون، أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد، مقالا في مجلة quot;فورين افارزquot; سنة 1993 بعنوان quot;صراع الحضارات؟quot; أكد فيه أن الصراعات و الحروب التي سيشهدها العالم خلال العقود المقبلة لن تكون إيديولوجية كما كان الحال سابقا بين الرأسمالية و الشيوعية و قبلها بين الليبرالية و الديمقراطية من جهة و النازية و الفاشية من جهة أخرى، وإنما ستكون صراعات أساسها الثقافة و الدين. كما خص هانتينجتون بالذكر المسلمين باعتبارهم الطرف الذي سوف يكون الغرب في صراع معه، خلافا لأتباع باقي الديانات الأخرى، مثل أتباع الكونفشيوسية في الصين و الهندوس و البوذيين. و كان دليله على ذلك أن المسلمين يتميزون بعدائهم لفكرة الوطن و أن تقاليدهم و ثقافتهم تعادي أسس الديمقراطية الغربية المبنية على حرية اختيار الفرد ndash; بما في ذلك خيار عدم الإيمان أو تغيير المعتقد - و الفصل بين الدين و السياسة، مما يحمي الأقليات ضد طغيان الأغلبية.
أثار مقال هانتينجتون الذي تم طبعه في كتاب في ما بعد، مع حذف علامة الاستفهام من العنوان، جدلا واسعا على اعتباره يروج للكراهية و للحروب الدينية و كيل الكاتب بمكيالين عندما خص المسلمين دون سواهم بالمعادة للحرية و قيم الديمقراطية. كما وفرت الانتفاضة الأخيرة للشعوب العربية فرصة لمراجعة مقولات هانتينجتون.
هذا ما جاء، على سبيل المثال، في مقال نشره quot;دافيد بروكسquot; بتاريخ 3 مارس الجاري في صحيفة quot;نيويورك تايمزquot; بعنوان quot;مراجعة صراع هانتينجتون.quot;
كتب دافيد بروكس: quot;ادعى هانتينجتون بان العرب ليسو وطنيين في المقام الأول و إنهم في الغالب لا يتوقون للديمقراطية و التعددية، كما هو الحال في الغرب. لكن الأحداث الأخيرة تشير إلى أن بعض الظروف هي التي لم تكن سانحة للتعبير عن هذه التطلعات لدى العرب... لذا رأينا في الأسابيع الأخيرة أناسا يضحون بأنفسهم للمطالبة بالتعددية و الديمقراطية في هذه الربوع.quot; و أضاف: quot; اعتقد أن هانتينجتون أخطا في تعريفه للثقافة و يبدو انه لم يقدر حق قدرها قوة القيم السياسية العالمية، كما بالغ في التأكيد على الخصوصية الثقافية...quot;
و الحقيقة أن هذا النقد لا يبدو منصفا في حق هانتينجتون. فأولوية الأمة على الوطن لم يختلقها هو و إنما هي أساس العداء، خلال العقود الأخيرة، بين القوميين من جهة و الإسلاميين من جهة أخرى الذين يعطون الأولوية للأمة. مرشد الإخوان المسلمين في مصر الذي يعلن على الملا انه يفضل أن يرأس البلاد مسلم من دولة أخرى على مواطن يتبع ديانة أخرى لم يكن يعبر عن رأي شخصي و إنما عن قناعة راسخة لدى أغلبية، و إلا لما جلبت تصريحاته كل هذه الضجة. و يمكن أن نقول نفس الشيء عن العداء للحرية الفردية و اعتبار الديمقراطية تشبها بالكفار. و هذا ما أكدت عليه استطلاعات الرأي لمؤسسة quot;بيوquot; حيث تبين أن 41% من المصريين لا يؤمنون بالديمقراطية كأفضل نظام للحكم و أن 84% منهم يؤيدون قتل المرتد، أي المواطن الذي يخالفهم الرأي في الدين.
و عندما يكتب برووكس: quot; من الواضح اليوم أن الشعوب العربية لا تختلف عن الشعوب الأخرى في توقها للحريةquot; فهو لا يناقض هانتينجتون بالضرورة لان هذا الأخير لم ينكر وجود شرائح تتوق للحرية في الدول العربية و الإسلامية، و إنما تحدث عن الأغلبية. ثم من قال إن أغلبية الذين شاركوا في الاحتجاجات الأخيرة يؤمنون بالحرية و الديمقراطية بالمفهوم المتعارف عليه في عالم اليوم؟ أتباع الشيخ القرضاوي الذين رفضوا السماح للشاب وائل غنيم إلقاء كلمة في ميدان التحرير لا يؤمنون بطبيعة الحال بالحرية كما نفهمها نحن. و أتباع الإخوان الذين التحقوا متأخرا بركب الثورة لا يؤمنون بالديمقراطية التي تأتي بالمرأة أو بالمسيحي لرئاسة الدولة كما لن يقبلوا بأية تشريعات صادرة عن برلمان منتخب ما لم تحظى هذه التشريعات بمصادقة quot;مجلس الفقهاءquot; حسبما ورد في برنامجهم الراقي المنشور على الانترنت. فهل أخطا هانتينجتون أم أصاب؟
ربما الأهم بالنسبة للعرب و المسلمين اليوم مراجعة النقاط التي أصاب فيها هانتيتنجتون عين الصواب، أي العوامل التي جعلتهم استثناء عالميا و أخرت انتفاضتهم من اجل الحرية و الديمقراطية لعقود، مقارنة لا فقط بشعوب أوروبا الشرقية و إنما أيضا بشعوب أمريكا اللاتينية و حتى شعوب إفريقيا جنوب الصحراء، حيث توفرت أسس الانتخابات الحرة في عدد من دولها. كما يتوجب التنويه بان مخاطر سرقة الثورة تجعل من الأهمية بمكان العمل على أن تكون الشرائح الملتزمة بمبادئها مثل الشباب و النساء و الأقليات ممثلة التمثيل الكافي في الأجهزة و اللجان التي تم إنشاؤها مؤخرا لحمايتها و ترجمة طموحاتها على ارض الواقع، و إلا فلن يكون حال الجماهير العربية التي انتفضت مؤخرا بأفضل من حال الشاب المصري وائل غنيم الذي سرق حراس الشيخ القرضاوي أحلامه في الحرية في ميدان التحرير بالقاهرة.

[email protected]