أعتقد أن من عايشوا تجربة المقاومة الفلسطينية ميدانيا في العديد من الساحات يتفقون على أن الحكيم الراحل الدكتور جورج حبش، الأمين العام الأسبق للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كان من أفضل القيادات الفلسطينية وأكثرها نزاهة وشفافية، وقد ركّزت على هذه الصفات المميزة له في مقالتي الأخيرة بعنوان (يا حكيم الثورة: وداعا).

خاصة رفضه في عام 2000 أن يرشح نفسه مجددا لمنصب الأمين العام للجبهة مفسحا المجال لقيادات جديدة، فكان اختيار (مصطفى الزبري ndash; أبو على مصطفى) الذي اغتالته قوات الاحتلال الإسرائيلي عام 2001، فانتخب من بعده أحمد سعدات الموجود في سجون الاحتلال منذ مارس 2006. واستعرضت محطات من مسيرة الجبهة من سلبياتها إلى ايجابياتها، وكانت الخلاصة قولي: quot; ومما لا يمكن تجاوزه أو نسيانه للحكيم أنه كان معروفا بنزاهته وصرامته الشديدة في قيادة الجبهة الشعبية quot;، واستشهدت كدليل على مقولتي هذه بجرأته في مراجعة خط الجبهة في عمليات خطف الطائرات، وقرار المكتب السياسي بوقفها وطرد وديع حداد من عضوية المكتب السياسي والجبهة بسبب رفضه للقرار واستمراره في عمليات خطف الطائرات.

قراء يفضلون طمس الحقائق
ورغم هذا التثمين لمواقف من مسيرة الحكيم تستحق التقدير، إلا أن بعض القراء قفزوا عن هذا، وركزّوا في تعليقاتهم على الدفاع عن قضايا يعتبرها الكثيرون خاطئة و قاتلة خاصة سلبيات المقاومة في الأردن قبل عام 1970، حيث محاربة النظام الملكي الأردني ومحاولة الإطاحة عبر الفوضى وتحدي الأمن والجيش الأردني وعمليات خطف الطائرات التي كانت السبب الرئيسي في أحداث أيلول عام 1970، فقد استنكر القارىء الذي وقّع باسم الدكتور (عادل حامد) ذكري لهذه السلبيات، وقال: quot; على أن ما لا يثير استغرابي هو من يتمسح بالحكيم ويشرق ويغرب ويأتي على تاريخ أسود نود نسيانه، وهو الكاتب ينفخ في الجمر ليشعل النار ويثير الفرقة والانقسام علما أنّ وعي الناس ومفهوميتهم أكبر من كل خرابيطه وأمنياته وأمانيه)، وهو يقترح عليّ أن أطلق على نفسي اسم كوهين وأقبض بالشيكل، تصوروا هذا المستوى الحضاري الراقي المتمدن في الحوار؟ فإذا كان هذا هو مستوى من يقدم نفسه على أنه (دكتورا)، فماذا نتوقع من جهلة أميين يشكلون نسبة ما يزيد على ستين بالمائة من عموم الشعوب العربية؟ ونسأل بعد ذلك لماذا يغلب الصراخ والردح والشتائم والاتهامات والتخوين والتكفير على مجمل الحوار والتفكير العربي؟.
هل يعتقد الدكتور عادل حامد أن ذكري لبعض صفحات التاريخ المخزية أقصد منه إشعال الفتنة؟ إن كان ذلك فهذا يعني أنه عند كتابة تاريخ المقاومة الفلسطينية ينبغي طمس كل ممارساتها قبل أيلول عام 1970 في الأردن، وكل عمليات الانشقاق التي جعلت مجموع فصائل المقاومة من الصعب حصرها، وكل القتل الفلسطيني الفلسطيني في حرب طرابلس شمال لبنان عام 1983 وحروب المخيمات في لبنان عامي 85 و 1988، وكل ممارساتها في جمهورية الفاكهاني اللاديمقراطية، وكل عمليات الاغتيال والتصفية الجسدية التي مارستها أغلب الفصائل، و عمليات الفساد والنصب بالمئات من الملايين وتوريد الاسمنت المصري لبناء الجدار العازل، والشركات الفلسطينية التي بنت مستوطنة أبو غنيم،فماذا يبقى بعد طمس هذه الحقائق المخزية المعيبة سوى التحرير وإقامة الدولة الفلسطينية الذي لم ينجزا بعد؟. وقد ناقشت هذه الظاهرة في مقالة لي بعنوان (ما العيب في نشر غسيلنا الوسخ؟) في الخامس من حزيران لعام 2007.

ومن طبيعة الأمم والدول الواثقة من نفسها أن لا تخجل من نشر أية سلبيات والتحقيق فيها، وليتنا نتعلم مما يحدث في دولة إسرائيل في هذا المجال حيث النقد القاسي والنشر العلني لكل الفضائح لكبار المسؤولين دون أن يقول أحدquot; كفى كي لا يشمت فينا العرب quot; لأن هذا هو الوسيلة الوحيدة للتقدم والشفافية، ولكننا شعوب نخاف من الأقوال أكثر من الأفعال فكل هذه الفضائح نستنكرها ليلا ونهارا في مجالسنا الخاصة، ونكاد نصل للجنون إن كتب عنها كاتب في وسائل الإعلام؟ أليست هذه حالة انفصام تستدعي دراسات نفسية؟.

قارئ أكثر وعيا وعقلانية
وفي المقابل هناك قراء يستحقون الاحترام لأنهم يناقشون الكاتب من باب الغيرة والحرص على الوصول لقواسم مشتركة في التفكير، وليس من باب المناكفات الشخصية لأنهم لا يحبون كاتبا معينا، والدليل على ذلك القارىء الواعي الذي كتب لي على بريدي الخاص بتوقيع (خالد) يقول:
(نشارك جميعا بأن من سقط اليوم هو علم ورائد من رواد النضال الفلسطيني والقومي والأممي، ولكن هل من الأخلاق والموضوعية القدح وذم القيادات الفلسطينية مثل قولكم الانشقاق المخزي لنايف حواتمة و تقزيم الانشقاق أنه من أجل مكاسب مادية، رغم أنكم ذكرتم أن حواتمة قيادي في الجبهة، يعني أن الرجل ليست له أطماع قيادية، وهو لا يقل فكريا وايدولوجيا عن الحكيم بل يفوقه على المستوى النظري والفكري، وهاهي الأيام أثبتت لكل حصيف أن الجبهة الديمقراطية لم تشكل إضافة عددية لمجموع فصائل العمل الوطني بل شكلت تيارا تميز بواقعيته الثورية، تيارا قادرا على اشتقاق المهام والرؤى وفق مراحل ومخاضات ودهاليز العمل الوطني الفلسطيني، فمن الدولة الديمقراطية العلمانية إلى البرنامج المرحلي، إلى التحالفات مع القوى التقدمية، والكثير من المواقف الوطنية الوحدوية، حيث شكّلت في السبعينات تيارا ثالثا قادرا على جمع الأطراف على القواسم المشتركة.......أما بخصوص مواصلة قيادة حواتمة فالرجل لا يملك سيفا ليسلطه على رفاقه من أجل إعادة اختياره، وإنما شكّل إجماع داخل التنظيم كبر أو صغر......لذا يا عزيزي ما كان هناك داعي للغة الخشبية والتخوين وتقزيم الآخرين لأن هذا لا يليق مع تقديري لشخصكم وتاريخكم).

وقد رددت على السيد خالد قائلا:
(أخي العزيز...شكرا على كتابتك لي، وهذا رأيك الذي لا أتفق معك فيه، فأنا عرفت شخصيا كل من ذكرتهم والتاريخ سيحكم عليهم، ولا أستطيع قبول بقاء الرفيق نايف حواتمة أربعين عاما على رأس الجبهة الديمقراطية فهذا إهانة لكوادرها، ولا أستطيع قبول مراهقات الديمقراطية في الأردن ثم عودة حواتمة لأحضان الأردن، المراهقات التي أوصلتنا للوضع الحالي، والخلاف في الرأي لا يفسد المودة بين الناس..وشكرا لك مرة ثانية).

وعاد السيد خالد ليكتب لي من جديد مدافعا عن وجهات نظره مذكّرا أن العديد من القادة الثوريين مثل كاسترو ولينين بقوا سنوات طويلة في قيادة بلادهم، وموضحا بأسلوب راقي أن الرفيق حواتمة أردني ومن حقه العودة لوطنه، وأنا أؤيده في هذه النقطة صراحة. وتصل الموضوعية بالسيد خالد قوله: quot; وأخيرا لا أنسى أن أقدم لكم الشكر والتقدير على مقالتكم التي ما زلت أذكر مضمونها حين كانت ردا ودفاعا عن قيس عبد الكريم حين هوجم كونه عراقي. الحقيقة لا أذكر التفاصيل بل أعتقد أنه أنتم من كتب ذلك المقال إن أسعفتني الذاكرة مع الشكر quot;.
وهو يقصد مقالة لي بعنوان (أبو ليلى: الفلسطيني العراقي) بتاريخ السادس والعشرين من ديسمبر لعام 2005
حيث كتبت عن هذا القيادي النزيه في الجبهة الديمقراطية الذي عاد مع رفاقه الفلسطينيين إلى رام الله، ولم يعد لمسقط رأسه سامراء العراقية لأن إيمانه الوطني قاده إلى أن النضال واحد في فلسطين أو العراق.

هل الوداع يعني التمجيد والتأليه؟
والنقطة المركزية ضمن هذا السياق تتعلق بطبيعة التقاليد العربية الخاصة بالتأبين والوداع لمن نفقدهم من قياداتنا السياسية، فقد ترسخت في الثقافة الشعبية العربية مفاهيم مثل: (أذكروا محاسن موتاكم) و (لا تجوز على الميت إلا الرحمة)، وهذه المفاهيم خلقت أبطالا أنبياء من غالبية ممن فقدناهم من القادة السياسيين، رغم أن ذكر محاسن موتانا لا يعفينا ولا ينقص من قدرهم ذكر سلبياتهم وأخطائهم، كما أن مفهوم (لا تجوز على الميت إلا الرحمة) لم أجد له أي سند فقهي أو شرعي أو تربوي، خاصة أن الميت غادرنا بجسده لكن تراثه وأعماله ومواقفه ستبقى ملكا للباحثين والمؤرخين سلبياتها وإيجابياتها. من هذا المنطلق كان الزميل خير الله خير الله جريئا للغاية في مقالته يوم التاسع والعشرين من يناير الماضي، بعنوان (هل يتعلم الفلسطينيون من تجربة جورج حبش)

إذ ذكر أيضا محاسن الحكيم وإيجابياته وكذلك سلبياته التي لخصها بقوله: quot; شاء القدر أن يتوفى الحكيم في عمّان. حبذا لو اعتذر ولو متأخرا من الأردن والملك حسين رحمه الله. الرجل الذي أنقذ القضية الفلسطينية غير مرة، خصوصا عندما حال دون قيام الوطن البديل على أرض بلاده. حبذا لو اعتذر جورج حبش قبل غيابه من اللبنانيين ومن مشاركة مقاتليه في الحرب اللبنانية مع طرف لبناني ضد أخر بما خدم في نهاية المطاف النظام السوري الذي كان همه الوحيد تدمير ما أمكن تدميره في لبنان. حبذا أخيرا لو اعتذر من الكويت والكويتيين بعد الموقف المشين الذي اتخذه من الاحتلال العراقي لهذا البلد العربي الآمن)، وهناك قراء استنكروا في تعليقاتهم موقف الحكيم من احتلال الكويت، وأمنيات الزميل خير الله خير الله كانت مطلوبة أيضا من الرئيس ياسر عرفات، و ألآن من الرفيق نايف حواتمة الذي نتمنى له طول العمر، خاصة الاعتذار من شعبه الأردني ونظامه الملكي الأردني عن مواقفه والجبهة الديمقراطية قبل أيلول عام 1970، تلك المواقف التي كانت تعمل من أجل الإطاحة بالنظام وإقامة مجالس السوفييت في كل شارع وحارة، عبر الفوضى و التعديات على الأمن والجيش الأردني، ومن سنوات يعود لوطنه معززا مكرما دون مجرد سؤاله عن تلك المواقف التي لا تشرّف أحدا، بينما هو يتذكر أن أعضاء في المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية والشعبية اعتقلوا لسنوات في السجون السورية بسبب تصريحات صحفية أدلوا بها، إذ لا يمكن نسيان اعتقال صلاح صلاح عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية حوالي سنتين، وقد وصل الخوف والذعر إلى حد أنه بعد الإفراج عنه لم تجرؤ مجلة الهدف الناطقة باسم الجبهة الشعبية على ذكر اسم السجن أو الدولة التي كان معتقلا فيها، فقد نشرت الخبر في زمن رئيس تحريرها المرحوم صابر محيي الدين بصيغة (نال الرفيق صلاح صلاح حريته...)، وعندما زرنا صلاح صلاح في مقر المكتب السياسي للجبهة في دمشق مهنئين بنيله حريته، لم نصدق حالته ووضعه الصحي الذي آل إليه في سجون الرفاق، في حين أنه بعد الانفتاح الديمقراطي الذي بدأه المرحوم الملك حسين عام 1989 عاد العشرات من السياسيين الأردنيين لوطنهم دون أية مساءلة أو تحقيق. ألا يستدعي هذا الوضع من الرفيق نايف حواتمة المراجعة والنقد على قاعدة النقد والنقد الذاتي التي درسناها في أدبيات الجبهتين الشعبية والديمقراطية؟. وهذه المطالبات لا تنقص عندي من مكانته إذ أحترمه وأقدر عاليا إسهاماته في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني.

لا للتأليه نعم لذكر السلبيات والايجابيات
لذلك من المهم أن يخرج العقل العربي من خانة التمجيد والتأليه للقيادات السياسية، هذا التقليد الذي جعل كل من ماتوا زعماء وقادة مثاليين يقتربون من مكانة الأنبياء والرسل وأولياء الله الصالحين. الحكيم رحمه الله كان قائدا حقيقيا لكن له سلبياته وإيجابياته ولا ينقص من قدره ذكر السلبيات والأخطاء، فمن بين القادة الفلسطينيين يظلّ الحكيم أفضلهم وأكثرهم نزاهة....ومرة أخرى للفقيد الرحمة ولأهله ومحبيه وأنصاره العزاء.
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية