من غضب الله على أمتنا الغالية، من المحيط إلى الخليج، أنه زرع في كل مواطن من ملايينها الكثيرة مرضا قاتلا صامتا يعشعش في الشرايين والأوردة فيعمي الأعين والقلوب معا، وهو مرض الحب الأعمى والكره الأعمى ولا شيء بينهما. فحين نحب لا نرى ولا نقبل ولا نتخيل أية منقصة فيمن أحببنا ولا أية فضيلة فيمن كرهنا.

لا نعرف الوسطية ولا نحبها ولا نقدر عليها. ففي كل دولة عربية، منذ انتهاء عهد الخلفاء الراشدين وإلى اليوم، جاء حاكم وراح حاكم، لم ُيبقه أهلها في حكم، ولم ُيسقطه أهلها من سلطة. فياما هتفت ملايين المصفقين لحاكم، يعيش يعيش، فلم يعش، وياما هتفت ملايين أخرى لحاكم، يسقط يسقط، فلم يسقط، وظل ينقر في رؤوس رعاياه إلى أن قتله السرطان أو الشيخوخة، فأورثها لولده الفاسق اللعين.

في أزمنة عابرة قصيرة تمردت جماهيرنا العريضة على حكامها وانتصرت، ولكنها، في الحقيقة وكما أثبت التاريخ، لم تنتصر إلا بأموال أمم أخر من الخارج، وسلاحها وجنودها، ممن لها مصلحة في إزاحة هذا الحاكم وتنصيب حاكم غيره. ولكن هذه الدول الخارجية أيضا نصرت حاكما على أهله، مرارا كثيرة، وأعانته على ذبحهم من الوريد إلى الوريد. ألم تروا ما فعلت روسيا والصين والهند ولبنان بجماهير سوريا الشجاعة التي يتساقط ثوارها كل يوم وكل ساعة، بالعشرات؟

وحتى ما نسميه بالاستعمار كان يجد في جماهيرنا العريضة ملايين عديدة تهتف له، يعيش يعيش، فلم يعش، ويسقط يسقط، ولم يسقط، كذلك.
أخاف دائما من الجماهير العريضة. فإذا ثارت أخشى أن يركب على ظهر ثورتها واحد يجيء بهيئة مناضل نزيه عنيد صلب ُيكثر من البسملة والتشهد والترحم على شهداء الثورة. وحين يتسقط السلطة بين يديه ينقلب على جماهيره، فيبدأ بشنق أقرب المناضلين إلى قلبه وأكثرهم هتافا له، يعيش يعيش. والأمثلة كثيرة.

الم يقاتل نصفنا مع معاوية بن أبي سفيان، ويزيد بن معاوية، وأبو العباس السفاح، وأبو جعفر المنصور، والمهدي والهادي وهارون الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم، وهولاكو وجنكيز خان، والسلطان عبد الحميد، وشاهنشاه إيران، والخميني، وهتلر وموسوليني، وصدام حسين، وحافظ أسد، والقذافي، وبشار، وعلي عبد الله صالح، وزين العابدين، ومبارك؟

ألا يقاتل نصفنا مع كثيرين من حكامنا القتلة المتسلطين علينا بظلمهم ممن يظنون أن الدور لن يأتي عليهم، وأن دار السيد مأمونة، وأن الذي ُيسقطهم لم تلده أمه بعد؟.
ألم يساهم نصفنا في قتل الإمام علي وولديه الشهيدين؟

كل حاكم من هؤلاء كانت الملايين من رعيته وعبيده منقسمة من أجله وبسببه قسمين، قسمٌ مع الرحمن، وقسم مع الشيطان. شعب مع الحق وشعب مع الباطل. واحد مع العادل وآخر مع الظالم. وكلٌ يصيح من أعمق أعماقه وبكل ما أوتي من حماسة وعنفوان، يعيش يعيش، ويسقط يسقط، والخصمان يقتتلان ويذبح أحدهما الآخر، باسم الحق والعدل والأمن الوطني والدفاع عن المقدسات والوفاء للأمانة. أما الحق والعدل والأمن الوطني والمقدسات والأمانة فأدوات ومعدات ولوازم العة والنة وتجارة الربح والخسارة.

هل رأيتم ما يحدث في سوريا اليوم؟ وما يحدث في اليمن وفي ليبيا وفي مصر وتونس والعراق ولبنان وفلسطين والأردن والبحرين والسعودية والسودان الشمالي والسودان الجنوبي؟

جماهيرُ بعدد الحصى تقاتل بضراوة واستبسال عجيب دفاعا عن حاكم ثبت بالوجه الشرعي، وبكل المقاييس السماوية والدنيوية، أنه (شلاتي) و(شبيح) و (قبضاي) و(فتوة) وحرامي وقاتل ونصاب وقاطع طريق، ويظلون يهتفون بحياة القائد المفدى، بالروح والدم، وألله أكبر والنصر لله ولرسوله وللشرعية والسيادة وأمن الوطن العزيز.
وجماهير أخرى بالمقابل، وبعدد الحصى أيضا، يرقص ثوارها المنتصرون على جثث (المتمردين) من أتباع عدو الله وعدو الشعب اللعين، ويبشرون العالم، على شاشات الفضائيات المناضلة المحايدة الصادقة المستمسكة بأمانة المهنة وشرفها، بقتل العشرات وأسر المئات وتدمير المزيد من المباني والمؤسسات والجسور والمساجد والكنائس والحسينيات.

الله الله ما أروع أمتنا العزيزة، وما أكرم تاريخها، وما ألطف أهلها وأرقهم وأعقلهم وأقربهم إلى المنطق والوسطية والديمقراطية والسلام!!
تأملوا تاريخنا الطويل. مخابرات حكامنا، من أول الدولة الأموية وإلى عهد نوري المالكي وبشار الأسد وعلي عبد الله صالح، فعلت وتفعل برعايا قائدها المفدى ما فعله فرعون بهامان، وقابيل بهابيل، ومعاوية بعلي، ويزيد بالحسين، وأبو جعفر المنصور بأبي مسلم الخرساني، وهارون بجعفر البرمكي، والمأمون بالأمين، وصدام حسين بالأب القائد وبعبد الخالق السامرائي وحسين كامل وأخيه وأمه وأبيه، ومقتدى بالخوئي، وحسن نصر الله بالحريري، وما يفعله اليوم نوري المالكي بالحكيم وبأياد علاوي ومسعود وجلال، وما يفعله حسن العلوي بقائده وزعيمه الدكتور أياد علاوي الذي أخرجه من الرياض وأجلسه في البرلمان وسلطه على رقبة (وفاقه) وقائمته العراقية التي تحتضر.

أهذه دنيا تستحق أن يتقاتل أهلها على ُفتاتها وأمجادها العابرة؟. ماذا أخذ صدام حسين معه إلى قبره في العوجا، وقصي وعدي؟ وما ذا سيأخذ القذافي ومبارك وعلي عبد اله. صالح وبشار ونوري المالكي وحسن نصر الله وخالد مشعل والبشير وكل حاكم لا يحتسب لساعة الغضب الكبير؟

والمحزن أن كل حكام جماهيرنا العريضة يصلون، على شاشات التلفزيون فقط، وُيبسملون ويكبرون، قبل أن يخطبوا، ثم يترحمون على الشهداء والصديقين، وينادون بالفضيلة والعدل والمساواة، وبالرحمة بالمواطن، وبالوقوف صفا واحدا بوجه الطامعين وبالتضحية بالنفس والنفيس من أجل الدفاع عن الحق والحرية والكرامة والوطن.
ما أبأس هذا الوطن، وما أظل جماهيره العريضة التي لا تتعب من الهتاف الغبي المجوج بحياة قاتل وحرامي وجزار، يعيش يعيش، ولكنه لن يعيش، وهذه سنة الحياة.