حصون الطوائف المنيعة: الدرزية السياسية جامعة النقيضين (4 من 5)
العلمانية الرحبة والمذهبية الضيقة على سطح واحد



إقرأ أيضا

السنية السياسية: الاشتباه الدولي

حصون الطوائف: المارونية العائدة

الشيعة: السلاح دائماً له حدان وتاريخان

بلال خبيز من بيروت: يغالب المرء، وهو ينظر في أحوال الطائفة الدرزية وما آلت إليه أوضاعها في لبنان، الرغبة في ان يعود إلى تفحص تاريخ كراخانات الحرير التي انتشرت في جبل لبنان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وشكلت يومذاك، ركيزة من ركائز اقتصاده الأساسية، وغيرت في طبيعة الأوزان الاقتصادية والسياسية تغييراً هائلاً. ورغم فضل الرجوع إلى تلك المرحلة واهمية التأسيس عليها، إلا ان المناقشة في اوضاع الطائفة الصغيرة التي تتحصن في جبل لبنان، مثلما تبدو حالها اليوم، ليس قليل الدلالات او معدومها. فالطائفة الدرزية بين الطوائف اللبنانية الكبرى، هي الطائفة التي لا يتناسب دورها السياسي الوازن والحاسم مع محدودية حجمها ومواردها. فلا يمكن افتراض ان هذه الطائفة تتغذى من وزنها العددي او مواردها الاقتصادية او الثقافية، حيث ثمة طوائف اخرى، مسيحية على وجه الخصوص، اكبر عدداً واوسع انتشاراً واهم دوراً على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، لكنها لا تؤدي الدور نفسه الذي تؤديه الطائفة الدرزية في موازين لبنان وعلى مستوى تقرير سياسته.

ثمة مقولة شائعة في لبنان تفيد ان الطائفة الدرزية تخسر في السلم ما كانت قد ربحته في الحرب. وكثيراً ما اشار الزعيم الدرزي الأبرز وليد جنبلاط إلى هذه المقولة في معرض اعتراضه على بنية النظام اللبناني. والحق ان مسألة الربح والخسارة التي تجري الإشارة إليها في هذا السياق ليست دقيقة كل الدقة. فنظراً إلى الحجم الفعلي للطائفة لا يبدو ان السلم يغمطها حقوقها. والحق ان لبنان ما بعد تعيين الرئيس إميل لحود رئيساً في دمشق عام 1998، كان يحكم بثلاثة رؤوس لها رابع. اي أن الحكم لم يكن ليستقر إلا على أربع قوائم، تتشكل من الطوائف الفاعلة الأربع التي تؤثر في السياسة اللبنانية. ورغم الجهود الكبيرة التي بذلها آل المر الارثوذكسيون في جبل لبنان لترتيب دور رابع او خامس في متن السياسة اللبنانية إلا ان هذه الجهود اصطدمت دائماً بحواجز صفيقة من الحلفاء والخصوم على حد سواء. المعنى ان وليد جنبلاط منذ الطائف على الأقل كان رقماً صعباً في المعادلة اللبنانية لم يستطع أحد تجاوزه. بل بدا في بعض الأحيان الرقم الأول وإن كان ذلك لم يدم طويلاً، وهذا ما ظهر بوضوح في 14 شباط وما تلاه من حوادث في لبنان.
يستند وليد جنبلاط في تثبيت دور طائفته الراجح إلى اربعة عوامل على الأرجح. الأول جغرافي حيث تنتشر الطائفة في سوريا ولبنان وفلسطين المحتلة. وتراعي في انتشارها لحمة بين ابنائها ونصرة بعضهم بعضاً. هذا يفترض أن اهل الطائفة في لبنان يملكون احتمال التأثير في الداخل السوري والداخل الفلسطيني. مثلما تملك الطائفة في لبنان ان تستجير بهؤلاء لنصرتها كل حين. لا تعني النصرة بطبيعة الحال ان يجهّز اهل الطائفة جيشاً جراراً للدفاع عن حصون الدرزية اللبنانية، لكن اتصال المدى الدرزي وانتشاره في الدول الثلاث، يؤثر على نحو حاسم في توجهات كتل بشرية يحسب حسابها في كل دولة من هذه الدول. هذا يعني ان التعرض للدروز في لبنان لا يمر سورياً بسهولة ويسر، ويوجب على النظام السوري ان يتحوط لهذا الأمر داخلياً. والأمر نفسه ينسحب على الوضع في اسرائيل. لكن الطائفة من ناحية ثانية وبسبب هذا الانتشار الجغرافي تستطيع ان تخرق أي اجماع وطني إذا لم تُراعَى مصالحها بترتيب علاقات أهلية مع الجوار الدرزي خارج الحدود.

لكن اوضاع الطائفة في سوريا ودولة اسرائيل ليست بالأوضاع التي يمكن المراهنة على دورها السياسي، وان لم يكن دورها الأهلي غائباً. لهذا يبدو زعيم الشوف زعيم الدروز في لبنان وجواره. وهذا يفترض ان من يتزعم لواء هذه الطائفة لا تختصر اوراقه بالداخل اللبناني وحسب، بل ايضاً بالجوار الذي لا بد ان يأخذ مصلحة هذه الطائفة في اعتباره. على اي حال فإن الدروز اللبنانيين بقيادة وليد جنبلاط نجحوا في شق هذه المعادلة والبناء عليها اثناء الاجتياح الاسرائيلي للبنان، فلم تكن القيادة الاسرائيلية جاهلة بما يدور بين النظام السوري والزعيم الدرزي رغم احكام قبضتها على الشوف وتدبير فتائل لإشعال الحرب الأهلية التي عصفت بالجبل بين المسيحيين والدروز في ثمانينات القرن الماضي. وعلى النحو نفسه، لم يقطع وليد جنبلاط شعرة معاوية مع النظام السوري حتى وهو يصليه أشد العداء اللفظي. والأرجح ان القطيعة تمت من جانب واحد. وان المياه قد تعود إلى مجاريها ببعض الدراية وحسن الفطن.

العامل الثاني الذي يجعل هذه الطائفة كبيرة الدور رغم ضآلة عددها، يتعلق بتاريخ لبنان نفسه. فالشراكة المارونية الدرزية هي بانية جبل لبنان الذي نعرفه اليوم، وكانت في أساس نظام القائممقاميتين العثماني. مما يجعل الطائفة التي تستوطن من لبنان وسطه وبعض حدوده مع سوريا واسرائيل في القلب من المعادلة الداخلية، مجاورة لبيروت العاصمة، وتمتلك بسبب موقعها الجغرافي امكانات سياحية واقتصادية قد تؤهلها لدور فاعل على هذا المستوى.

العامل الثالث الذي تتغذى منه الطائفة هو تماسكها الشديد وصعوبة التفريق بين قادتها وأهلها. مما يجعلها قوية الشكيمة وحادة الانياب. ومن هذا المنبع تروج في لبنان مقولة ان الدروز ينتصرون في الحروب ويخسرون في السلم. ففي الحرب يقفون وقفة رجل واحد، لكنهم في السلم يعودون أهل طائفة صغيرة العدد محدودة الموارد.

لكن الدور الأرجح الذي أدته الطائفة خلال العقود الأخيرة والذي ثبت زعامة ال جنبلاط على الطائفة من دون منازع، هو ارجحيتها في التدخل في الشأن اللبناني العام. اذ يملك وليد جنبلاط دون غيره من سائر زعامات الطوائف شرفاته البالغة الاهمية التي تشرف على المدى اللبناني الأعم، واحياناً العربي والدولي حين تكون الرياح الدولية والعربية مواتية.

يمتلك وليد جنبلاط دون غيره من سائر الزعماء تاريخاً يمت بصلة قوية إلى التيارات العلمانية في لبنان. وكان الزعيم الدرزي لزمن خلا رئيساً للحركة الوطنية اللبنانية التي قادها والده كمال جنبلاط ردحاً من الزمن قبل اغتياله. كان الشهيد كمال جنبلاط، زعيماً مميزاً من زعماء لبنان. وكان له وقعه العربي والدولي، و وزنه الراجح في المعادلة اللبنانية. ويمكن القول ان قمقم الطائفة الضيق لم يكن يتسع لقائد وزعيم من قامته. هكذا تنكب الطريق الأصعب محاولاً ان يقود البلد برمته، لا طائفته و حسب. و يمكن اليوم ان يحكم المرء بسهولة ان الفارق الجوهري بين الأب والابن يتصل اتصالاً حثيثاً بهذ الإرث، فالراحل الكبير كان رجل خيارات كبرى، يعتنقها ويقيم فيها.

اما الابن اللماح فهو رجل مواقف موجزة، سرعان ما ينجح في تغييرها وتبديلها من دون ان يخسر من شعبيته في صفوف الطائفة. والحق ان الأب كان يصرف من رصيده في الطائفة ليوظفه في حسابه العلماني اليساري، فيما بدا الابن طوال تاريخ تزعمه الطائفة يصرف من رصيد والده العلماني ليوظفه في حساب الطائفة الضيق. وبين الرجلين ثمة الفارق الكبير، فالأب الراحل كان قائداً لحركة وطنية عبرت بين الطوائف والمذاهب والمناطق من دون رادع، متسلحاً بمشروع علماني بالغ التنور في ذلك الحين. ويمكن القول ان تاريخه حافل بالانجازات الكبرى، وقد تكون الحرب الأهلية بعض اخطائه. اما الابن فورث عن ابيه رصيداً علمانياً كبيراً لا يستهان به، لكن معاركه الكبرى كانت في الدفاع عن حياض الطائفة وحدودها، وإذا واتته الظروف في محاولة تحسين شروط مشاركتها في السلطة والثروة اللبنانيتين.

خلاصة القول ان جنبلاط الابن أثبت جدارته في زعامة الطائفة لكنه فشل في تزعم البلد، لكن والده اثبت جدارته في تزعم البلد وكان تزعمه لطائفته يتحصل له من فوائد تزعمه للبلد برمته. هكذا لعب الابن في ارث والده، وقد كان في احيان كثيرة مضطراً لذلك اضطراراً، لكنه ثبت زعامته على الطائفة من دون منازع. وحتى اليوم يستطيع جنبلاط الابن ان يتدخل في شؤون اليسار وشجونه، بوصفه واحداً من ورثته، خصوصاً في ظل الأزمة التي يعيشها اليسار اللبناني وتتوالى فصولاً منذ اكثر من عقد ونصف العقد. ومن هذا المصدر يكتسب الزعيم الدرزي قدرته على التدخل في الشؤون العامة. فهو ليس ممثلاً لطائفته وحسب بل هو ايضاً ممثل طائفة العلمانيين التي لا تحدها اي حدود والتي حين تكسب فإنما تكسب من لحم الطوائف كلها من دون تمييز. هذه الطائفة تمتلك احتمالات المستقبل في طبيعة تكوينها، لأنها تستطيع العبور بين كل المناطق والطوائف والمذاهب ولا تقف في وجهها اي حدود. والحال إن مشروعاً يسارياً ناهضاً في البلد في وسعه ان يهدد كل القوى الأخرى من دون أي تمييز. على هذا يستند جنبلاط إلى طائفة مطواعة تحت قيادته، فتارة يكون زعيم العلمانيين الذي لا يشق له غبار، وطوراً هو زعيم الدروز الذي يستوطنون من لبنان القلب والوسط.

في اربعينية الشهيد جورج حاوي القائد الشيوعي البارز أبّنه رفيقه وصديقه ورفيق كمال جنبلاط، أمين عام منظمة العمل الشيوعي السيد محسن ابراهيم. قال في تأبينه ما يجب ان يقال في رفيق عزيز وقائد بارز. لكن كلمة ابراهيم لم تكن تأبينية وحسب، ففيها اعاد التذكير بأن روافد اليسار اللبناني كانت ثلاثة: التيار العروبي الذي اقترب من الفكر اليساري يومذاك والذي اقترب من لبنانية ما يمكن ان نناقش اليوم حدودها، بقيادة محسن ابراهيم نفسه، والتيار اليساري اللبنانوي الذي تقرب من العروبة بقيادة جورج حاوي، والتيار العلماني الذي كان يخرج حثيثاً ووئيداً من مذهبيته بقيادة كمال جنبلاط نحو علمانية بلا ضفاف. محسن ابراهيم اضاف ان الحركة الوطنية التي تزعمها الراحل كمال جنبلاط انجزت الكثير واخطأت كثيراً ايضاً، ومن بين اخطائها انها حمّلت البلد، دعماً للمقاومة الفلسطينية، ما لا يطيقه عدالة وانصافاً، وانها على حد تعبيره استسهلت ركوب سفينة الحرب الأهلية طريقاً للتغيير.

هذا النقد أثار في الوسط السياسي ضجيجاً ونقاشات لم تهدأ بعد. وكان وليد جنبلاط بين الذي أثارهم الخطاب وبين من ردوا عليه معترضين. وليد جنبلاط قال رداً على ابراهيم: انه لغيرنا ان يتلو فعل الندامة لكننا لن نفعل ذلك بتاريخنا. كأنما خطاب ابراهيم قد اصاب في جنبلاط مقتلين: الأول في تاريخه والثاني في مستقبله. كان وليد حنبلاط يستعمل يساريته وعلمانيته حين يجد الوقت مناسباً لاستعمالهما، ويعود إلى طيهما والسكوت عنهما حين لا تعودان تخدمان مصلحته السياسية. و الحال، إن خطاب محسن ابراهيم ذكره بأن اليسارية والعلمانية ليستا هبة من السماء لآل جنبلاط يتوارثونهما أباً عن جد، وان والده نفسه قد استحقهما جهداً ونضالاً ولم تتحصلا له إرثاً أو مكرمة. وبذا يكون قد اصابه في مستقبله السياسي.

ثم اصابه في تاريخه حين اعلن ان الحركة الوطنية بقيادة الثلاثي جنبلاط الأب، حاوي وابراهيم يحفل تاريخهم بانجازات كثيرة، أما الحرب الأهلية فهي من اخطائهم، وليست من انجازاتهم، في حين ان جل انجازات وليد جنبلاط كانت في هذه الحرب، على صهوتها وفي خنادقها الأهلية. وهذا يفترض ان مواليد الحرب يعجزون عن نقد تاريخهم لأن لا تاريخ لهم غيرها يستندون إليه. حدة جنبلاط في الرد على ابراهيم كانت تعني على الأرجح ان الرجل شعر ان بعض امضى اسلحة الطائفة تمثلت في غياب اليسار عن ساحة الفعل، حيث تسنى للزعيم الدرزي ان يستعمله وسمح لآخرين باستعماله. لكن تحديد الحدود التي وضعها محسن ابراهيم بين الطائفية والعلمانية تجعل من الصعب على أهل الطوائف ان يرثوا اليسار في حضوره. وفي هذا الحضور ما يجعل الطائفة التي يتزعمها جنبلاط امام خيارين احلاهما يحتاج لبذل كل جهد ممكن في سبيل تحقيقه. فلا تعود معهما الزعامة إرثاً بل عملاً دؤوباً لا يفلح معه التقلب بين المواقف والخيارات الذي ادمنه الزعيم الدرزي وجعله في متن سياسته طوال السنوات الحالكات التي مرت على البلد.