حصون الطوائف المنيعة (3 من 5)
الشيعة: السلاح دائماً له حدان وتاريخان

إقرأ أيضًا:

حصون الطوائف المنيعة (2من5)
المارونية العائدة

حصون الطوائف المنيعة (1من5)
السنية السياسية: الاشتباه الدولي


رجال سورية في لبنان

زوال الهيمنة السورية:
متى يزيل اللبنانيون أسبابها

عدنان عضوم: القضاء في خدمة الطموح(1)

جميل السيد: CIA لبنانية تقبض على أحشاء الأنظمة السياسية(2)

اسعد حردان: العلماني القوي(3)

ناصر قنديل الذي قفز فوق كل الحواجز(4)

كريم بقرادوني .. الرجل الثالث (5)

غازي كنعان .. المايسترو (6)

إيلي الفرزلي.. الولاء غير المشوب بشائبة(7)

سليمان فرنجية: الجغرافية تتحكم في التاريخ(8)

عبد الرحيم مراد العروبي على طول الخط(9)

ميشال المر خط الدفاع الأول(10)

سامي الخطيب رجل المراحل الانتقالية(11)

إرسلان يطمح لدور أكبر(12)

عاصم قانصو السياسة في اوقات الدوام الرسمي(13)

اميل لحود:
* انتخبه حافظ الاسد قبل انتخابه لبنانيًا(14)

*افخاخ المستقبل(15)

عمر كرامي:
*السوري حاكمًا..المعارض محكومًا(1)

*السنية السياسية في ميزان لبنان(2)

بلال خبيز من بيروت: لا يختصر حزب الله وسلاحه، موضوع السلاح الشيعي في لبنان. ويعرف اللبنانيون ان سلاح حزب الله المطلوب دولياً ومحلياً نزعه هو الورقة شبه الوحيدة التي يملكها النصاب السياسي الشيعي في مواجهة الطوائف الأخرى. لكن ما يختلف بين سلاح حزب الله كما هو عليه اليوم وسلاح الشيعة مثلما ما كانت عليه احوالهم منذ العقد السادس من القرن العشرين يتعلق بتضخم هذا الدور وتجاوزه الحدود المحلية والأهلية، ليلعب دوراً ممتازاً على المستوى العربي والدولي على حد سواء. على هذا لا يبدو سلاح حزب الله قابلاً للنزع في يسر وسهولة. ويذهب العقيد جوني عبده سفير لبنان السابق في فرنسا وجنيف، والقريب من الرئيس الراحل رفيق الحريري، إلى التصريح لـ "إيلاف" في حديث مع الزميلة ريما زهار، إلى اعتبار مناقشة سلاح حزب الله او البدء بمناقشته أمر لا يستوفي الشروط المنطقية التي تتيح للبنانيين تحقيق نتائج مرضية على هذا المستوى. وبحسب العقيد فإنه من الملح ان يصل اللبنانيون إلى تحقيق صيغة ما تتيح تحصين استقلال لبنان وجعله ناجزاً مما يمنع أو يتصدى لأي خرق اسرائيلي في الأجواء او المياه اللبنانية، فضلاً عن الأرض اللبنانية بطبيعة الحال، وبحسب العقيد دائماً، لا يصح طرح مسألة سلاح حزب الله على الطاولة تمهيداً لنزع سلاحه، إلا مترافقاً مع إنجاز من هذا القبيل.

المعضل في ما يطرحه العقيد عبده هو ما يتعلق بدور السلاح الخارجي. أي بدور حزب الله في حماية الحدود وتحرير الأرض من الاحتلال الاسرائيلي، لكنه لا يرى أي مشكلة كبرى في سلاح حزب الله الاهلي، فهذا من الامور التي يسهل على اللبنانيين حلها. طبعاً لا نستطيع ان نقوّل الرجل ما لم يقله. فالسياسة في لبنان تستأخر البحث الجدي والشامل على الدوام، وتحاول حل الإشكالات الملحة ومعالجة الاخطار الداهمة. اي انها سياسة في مهب الخطر. تتحرك وتنشط في مثل هذه اللحظات بالضبط. وقد يكون العقيد يعرف جيداً تعقيدات هذا السلاح، لكنه ايضاً يعرف انه من المفيد، لحلحلة العقد، ان تحل مسائل هذا السلاح الشائكة عقدة عقدة، لئلا تبدو عصية على اي حل.

والحق ان سلاح حزب الله المطلوب نزعه اليوم، هو سلاحان. سلاح أهلي بامتياز له نصاب وتاريخ. وسلاح وطني ايضاً بامتياز له ايضاً نصاب وتاريخ. وفي الحالين، لا يعدو ان يكون حزب الله وريث هذين السلاحين دفعة واحدة وعلى نحو لم يتحصل لطرف آخر من قبل.

لكن المفارقة البالغة التعبير في هذا المجال تتعلق بكون المطالبين بنزع سلاح حزب الله اليوم من اللبنانيين يستندون إلى مفاعيل القرار 1559، بمعنى ان ما يلح في مسألة هذا السلاح هو بالضبط شقه الوطني بامتياز. في حين ان احداً لا يناقش سلاح حزب الله الأهلي إلا مواربة وعلى غير صراحة او تحديد.

المعضل في هذا السلاح هو في طريقة نزعه. فإذا نزع لمصلحة تعطيل دوره الوطني – التحريري، يغامر اللبنانيون في تعطيل أحد أهم مقومات الهوية اللبنانية في العقود السابقة التي دفع اللبنانيون ثمناً غالياً لتحقيقها. لكنهم ايضاً يغامرون في جعل السلاح الأهلي حقاً من حقوق الطائفة لا يستقيم دورها في الشراكة اللبنانية المستجدة إلا بوجوده وامتشاقه والتهديد به، وتالياً حماية حدود الطائفة بواسطة هذا السلاح. والحق انه اجدى للبنانيين ان يناقشوا كيفية نزع السلاح الأهلي بدلاً من مناقشة كيفية نزع السلاح المقاوم. لكن الأمور لا تسير في لبنان مثلما يشتهي البلد في استواءه وطناً لمواطنين من الطوائف والمذاهب كافة.

ليست المرة الأولى في تاريخ الشيعة في لبنان التي يطرح موضوع سلاحهم على بساط البحث الأهلي. وعلى كل حال، قد يكون من المفيد مناقشة وتحليل اوضاع الطائفة الشيعية في لبنان وعلاقتها بمباني الدولة اللبنانية واسباب بقائها على اعتابها طوال اكثر من ربع قرن من تاريخ لبنان المستقل. لكن المهم في هذا السياق يتعلق بولادة السلاح. واذ يجمع المؤرخون والسياسيون على تحديد تاريخ للتدخل الشيعي في اصول الصيغة اللبنانية، فإن المرء يستطيع ان يلاحظ من غير كثير جهد، ان محاولة الشيعة السياسية الدخول طرفاً ولو ثانوياً في المعادلة اللبنانية ترافقت مع تسلح وتدريب وتشكيلات شبه عسكرية وميليشيوية في مطلع سبيعنات القرن الماضي. اي في الفترة الزمنية نفسها التي شهدت المحاولة الشيعية الأكثر جدية في الدخول إلى أصل الصيغة اللبنانية. ويستطيع المرء ان يلاحظ ايضاً ان الأبطال هم انفسهم في الصيغتين. فالداعون إلى التسلح بوصف "السلاح زينة الرجال" هم انفسهم الذين دعوا من ناحية أخرى إلى ضرورة المشاركة الفاعلة في الصيغة اللبنانية، وحجز دور راجح لأهل الطائفة في مبانيها.

في الإمكان ان نبنى على هذه الملاحظة نتيجتين حاسمتين: أولاهما ان الطائفة الشيعية لم تكن حتى ستينات القرن الماضي قادرة على الدخول في مباني الدولة اللبنانية على أي وجه من الوجوه، واستمرت على هذه الصيغة الحذرة طوال زمن الهيمنة السورية على لبنان. وثانيتهما ان السلاح الشيعي كان وسيلة من الوسائل الحاسمة التي توسلت بها الطائفة ترسيخ حضورها في المعادلة اللبنانية الداخلية. لكن سلاح الطائفة في السبيعنات وطوال زمن الثمانينات من القرن الماضي وحتى اوائل تسعيناته كان سلاحاً أهلياً بامتياز. تقلب في الولاءات والاتجاهات بحسب مصلحة الطائفة التي قُدّمت دائماً على مصلحة الوطن. هذا السلاح كان سلاحاً مهادناً في الحرب الأهلية اللبنانية، وكان على نحو من الانحاء يهدف في ذلك الزمن إلى حجز مقعد في الحرب المقبلة لأهل الطائفة اكثر منه سلاحاً يريد الدخول في مغامرة الحرب الأهلية المنفلتة من عقالها. لكن هذا السلاح ما لبث ان توجه نحو المقاومة الفلسطينية المتحالفة مع الحركة الوطنية، منذ النصف الثاني من السبعينات، معترضاً، أي السلاح الأهلي هذا، على شروط الصراع غير المتكافئ مع اسرائيل الذي كانت الحركة الوطنية اللبنانية تدافع عنه، وتحجز البلد في قمقم هذا الصراع وتستبيح مقدراته وتعلق اجتماعه على مشجبه.

استمر السلاح الشيعي سلاحاً فاعلاً على هذا الصعيد، وشهد ذروة تصاعده في بدايات النصف الثاني من الثمانينات، في ما سمي يوم ذاك حرب المخيمات، عندما لجأت حركة "امل" القوة الأبرز بين الجماعات الأهلية الشيعية يوم ذاك إلى شن حرب قاسية وطاحنة على مخيمات بيروت والضاحية الجنوبية، وتم استكمالها في حروب مماثلة على مخيمات الجنوب في ما بعد. والحق ان حركة "أمل" المسلحة، والتي خاضت حروباً طويلة ومريرة ضد تحالف المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، قبيل الاجتياح الاسرائيلي لجنوب للبنان صيف العام 1982، استقبلت الجيش الاسرائيلي بمزيج من الفتور والحذر في مناطق معينة وببعض الترحيب الخفر في مناطق اخرى، مما كان يعكس يوم ذاك حرج الشيعية السياسية حيال ما يتعلق بدور لبنان الاقليمي والعربي، واقتصار طموحاتها على الدور الاهلي الذي تطمح لتحقيق بعض شروطه. فالسلاح الذي كان فصيحاً ضد المقاومة الفلسطينية، اصابه البكم والعياء ضد اسرائيل. والحق انه تأسيساً على هذين البكم والعياء تسلم حزب الله الذي تشكل في النصف الثاني من الثمانينات زمام المبادرة من حركة أمل، ووجه السلاح وجهة وحيدة نحو اسرائيل، وصولاً إلى استفراده وحيداً بمقاومتها منذ النصف الثاني من التسعينات وحتى التحرير ربيع العام 2000.

هذا التأريخ الناقص لتوجهات السلاح الشيعي في لبنان، يريد التنبيه إلى خاصيتين:
الأولى ان لسلاح حزب الله اليوم تاريخين: تاريخ أهلي موروث من جراب الطائفة نفسها، وهو سلاح يستطيع أو هو مولج بالدفاع عن الطائفة ومصالحها على المستوى الداخلي. والتاريخ الثاني موروث من الحركة الوطنية اللبنانية وحليفتها المقاومة الفلسطينية، اللتين دعتا إلى اعتبار لبنان طرفاً اساسياً في الصراع العربي الاسرائيلي وكثيراً ما بالغ الطرفان في حصة لبنان من اكلاف هذا الصراع، إلى حد بدا معه انه البلد الوحيد الذي يخوض حروباً عربية - اسرائيلية مستحيلة.

لهذه الأسباب يبدو سلاح حزب الله اليوم صعباً على المناقشة وخطيراً على استتباب السلم الأهلي. وتالياً يترجح حزب الله بين سلفين: سلف وطني – قومي - عربي - إسلامي، وسلف اهلي. وعليه ان ينجح في ان يشتق معادلة تحمي الوجهتين. لكن حشر حزب الله في زاوية من الزاويتين بما لا يتيح له المحافظة على هذه المعادلة الصعبة قد يجعل سلاحه سلاحاً أهلياً بامتياز، كليل المخالب ومحفوف الأنياب في وجه التدخلات الاسرائيلية، وطويلها في وجه الطوائف الأخرى وأسلحتها الموروثة والتي تنافسه على كل دور.

قد يكون من المفيد التذكير عرضاً ان حزب الله اللبناني، طوال زمن الهيمنة السورية على لبنان، لم يستطع ان يدخل محراب السياسة اللبنانية وان يعتلي منبرها. كان على الدوام خارج المعادلة الداخلية، ومولجاً بتحقيق النصر على العدو الاسرائيلي من دون ان يكون له أي دور فاعل في المسائل الداخلية. والحق انه طوال ذلك الزمن كان دهاقنة السياسة اللبنانية يطردونه من متنها ما ان يوحي او يحاول دخولاً في هذا المتن. ومن غرائب السياسة اللبنانية ومستهجناتها ان الطرف الأقوى محلياً في دعم السياسة السورية لم يتم توزيره في اي من الحكومات التي كانت سوريا تشكلها وتطبخها في عنجر. بل كان على الدوام خارج الصيغة مطروداً من الوسط نحو الاطراف. لكن هذا الحزب شهد أول انتصاراته السياسية على المستوى الداخلي ما ان ارتفعت يد الهيمنة السورية الثقيلة عن رقبة اللبنانيين. فتحول لاعباً اساسياً من لاعبيها مع اول حكومات ما بعد الهيمنة السورية وما زال حتى اليوم.

مما لا شك فيه ان تحرر لبنان من الهيمنة السورية على النحو الذي تم، والذي يمكن ان يقال فيه الكثير ذماً وقدحاً، أثمر نتائج بالغة الأهمية على المستوى الداخلي. نتائج هي من الخطورة بمكان، لكنها توضح على نحو لا لبس فيه طبيعة الانقسامات اللبنانية وضرورة ايجاد الصيغ المناسبة لتعايش هذه الانقسامات في وطن واحد موحد. في هذا السياق لم يستطع حزب الله ان يبقى خارج المعادلة الداخلية فسرعان ما تحول طرفاً أهلياً يقود جهة من جهات البلد المتصارعة. وبذلك تخلى عن امتياز وقوعه خارج المدار الأهلي بوصفه حزباً يقاوم اسرائيل، إلى طرف أهلي يدافع عن حصته من الجبنة اللبنانية، و يستثمر سلاحه في هذا الدفاع.

خلاصة القول ان حزب الله هو الطرف المؤتمن على سلاح الشيعة السياسية الأمضى في لبنان، وان التفريط في هذا السلاح يشبه التسليم والقبول بدونية الطائفة وضمور دورها على المستوى اللبناني العام. والحق ان الشيعة السياسية في لبنان هي الجهة الوافدة حديثاً على مقومات الهوية اللبنانية، وهي تالياً الجهة الأضعف أسلحة والأقل قدرة على المناورة. لكن هذه الطائفة من جهة ثانية هي الطائفة الأكثر حراكاً اجتماعياً والأشد حيوية على مدى العقود الثلاثة الماضية على اقل تقدير.

رغم هذا الغنى الذي تختزنه الطائفة الشيعية بين افرادها، إلا انها لا تستطيع استثمار مواردها على الوجه الأفعل والأمضى. فنخب هذه الطائفة، وبسبب من مركزية بيروت العاصمة، سرعان ما تهجر طائفتها إلى مدى يفترض به ان يكون أوسع وأرحب. لكن الأمر لا يبدو كذلك على الإطلاق. فالاستاذ الجامعي الذي يسكن بيروت ويتحدر من أصول شيعية محكوم بالتعامل سلباً وايجاباً مع ممثلي العاصمة سياسياً واجتماعياً ومذهبياً على حد سواء. وهو لذلك لا ينجح في الدخول في متن مبانيها الاجتماعية والسياسية لكنه ايضاً لا يستطيع العودة إلى زنزانة الطائفة الضيق. والحال يتم بحسب القانون والدستور، وبحسب التوزيع الديموغرافي تعطيل الأدوار السياسية والاجتماعية لهذه النخبة. لتجد نفسها من دون أي دور تقريباً. فهي محشورة بين دورين، إما دور الأجير في المعادلة البيروتية السياسية، وإما دور المنغلق في حدود طائفته في المعادلة الشيعية الصعبة. وعليه فإن سلاح حزب الله هو السلاح الوحيد الذي نقل الطائفة من قمقمها الريفي والطرفي إلى رحاب الهوية اللبنانية الجامعة. لذا يصعب ان يتقبل اهله نزعه بسهولة. خصوصاً ان المطلوب نزعه بموجب القرار الدولي هو هذا الدور بالضبط وليس الدور الأهلي الممتاز الذي يستعد قادة حزب الله للعبه على الصعيد اللبناني الأعم.

يبقى انه من الممكن وقد يكون من المرجح ان يضطر حزب الله لتسليم سلاحه تحت ضغط احكام سياسية معقدة. وتالياً تجريد الطائفة من سلاحها الأمضى. هذا يعني ان أحكام الديموغرافيا الشيعية ستعود لتطل برأسها مرة اخرى بوصفها لاعباً اساسياً من لاعبي الساحة اللبنانية. فالطائفة تسيطر بشرياً على اكثر من ثلاثة ارباع الحدود البرية للبنان.

وفي حال حشر اهلها وممثليها في القمقم الضيق الذي تقترحه القرارات الدولية ومصالح الجهات الاخرى في البلد، فإن اللعب سيصير على مستوى الديموغرافيا نفسها. اي ان التدخل الخارجي من الجهتين سيجد له معبراً آمناً من القرى الشيعية المنتشرة على الحدود. وإذا ما نزع سلاح حزب الله الوطني وضرب دوره وانجازه الذي يقيد الطائفة اليوم بقيد أكبر من دورها المحلي، فإن اهل الطائفة لا يجدون حرجاً في تطلب التدخل الخارجي من جهتي الحدود. ذلك ان درس الطوائف الذي تعلمناه جيداً من لبنان إلى العراق يفيد انها تستطيع ان تبدل الولاءات بيسر وسهولة ومن دون أي تبكيت ضمير.