حصون الطوائف المنيعة (2 من 5)
المارونية العائدة

إقرأ أيضًا:

حصون الطوائف المنيعة (1من5)
السنية السياسية: الاشتباه الدولي


رجال سورية في لبنان

زوال الهيمنة السورية:
متى يزيل اللبنانيون أسبابها

عدنان عضوم: القضاء في خدمة الطموح(1)

جميل السيد: CIA لبنانية تقبض على أحشاء الأنظمة السياسية(2)

اسعد حردان: العلماني القوي(3)

ناصر قنديل الذي قفز فوق كل الحواجز(4)

كريم بقرادوني .. الرجل الثالث (5)

غازي كنعان .. المايسترو (6)

إيلي الفرزلي.. الولاء غير المشوب بشائبة(7)

سليمان فرنجية: الجغرافية تتحكم في التاريخ(8)

عبد الرحيم مراد العروبي على طول الخط(9)

ميشال المر خط الدفاع الأول(10)

سامي الخطيب رجل المراحل الانتقالية(11)

إرسلان يطمح لدور أكبر(12)

عاصم قانصو السياسة في اوقات الدوام الرسمي(13)

اميل لحود:
* انتخبه حافظ الاسد قبل انتخابه لبنانيًا(14)

*افخاخ المستقبل(15)

عمر كرامي:
*السوري حاكمًا..المعارض محكومًا(1)

*السنية السياسية في ميزان لبنان(2)

بلال خبيز: حادثتان في الأسابيع القليلة الماضية حاولتا التأشير والتدليل على واقع الحال في لبنان . الحصار السوري من ناحية أولى، وجلسة مناقشات مجلس النواب من ناحية ثانية. يستطيع اي كان ان يلاحظ ان جلسة مناقشة البيان الوزاري في المجلس النيابي لم تكن على مستوى التحديات. هذا بعض مما درجنا عليه على مدى زمن لا يجدي ان نعد ايامه واسابيعه. لكن الجلسة من جهة أخرى كشفت عن ملامح المعارك المقبلة بين القوى التي تملك زمام المبادرة والقوة اللازمة لافتعال معارك وتثبيت مواقع. طبعاً ليس ثمة من أمل في ترتيب تسوية ما متوازنة وقادرة على الصمود والثبات. لكن ما طرح في المجلس النيابي بدا إلى حد بعيد مفهوماً ومعقولاً اذا ما ادرجناه في اطار عام يتعلق بتثبيت مراكز القوة وتحصينها على نحو يعصى على القوى الأخرى استغلالها.

بدأت المناقشات بإثارة موضوعين حساسين على الأقل. الأجهزة الأمنية من جهة أولى والمتعاملين مع العدو الإسرائيلي من جهة ثانية. في الحالين كان نواب "التيار الوطني الحر" من أثار القضيتين على نحو ملتبس وملغز مما أثار اشكالات وسجالات لا تحصى. في حالة المتعاملين مع العدو الإسرائيلي كان الجنرال ميشال عون يستكمل معركة داخل البيت المسيحي. فلم يكن ممكناً ان يمر الموضوع من دون احراج كبير للطرف الأوزن بين اطراف المسيحية السياسية المتحالفة مع اهل السلطة التنفيذية وممثليها. كانت الاحتفالات قد رافقت خروج الدكتور سمير جعج من السجن. احتفالات بدت على نحو لافت كما لو انها اعادة تثبيت اقدام طرف سياسي وميليشيوي إلى هذا الحد او ذاك على ارضه وبين اهله. لم يمر الاحتفال من دون مشكلات أمنية. لكن المشكلات الأمنية لم تكن في حد ذاتها من دون دلالات سياسية تتخطى حدود التهديد المبطن بالحروب والصراعات المفهومة على خطوط تماس أصلية ديموغرافية وطائفية على نحو لا يرقى إليه الشك. فالعراضات "القواتية" كانت من دون شك احتفالاً سياسياً بعودة "القوات اللبنانية" طرفاً يملك وزناً مؤثراً في الشارع ويستطيع ان يدافع عن حدود منطقته على نحو فاعل.

لكن هذه الاحتفالات التي علّمت الحدود المرعية الإجراء بين قوى طائفية تقتسم البلد سلطة وتستعد لتقاسم ثروته، إذا تبقى منها ما يمكن توزيعه، بدت امام اثارة "التيار الوطني الحر" موضوع المتعاملين مع العدو الإسرائيلي كما لو انها تستعد لمعركة داخل الحدود التي حاولت دمغها بشواخص ونقاط علام. فإذ يثار الموضوع بعيد خروج قائد "القوات اللبنانية" من السجن، فإن ذلك يشير على نحو بالغ الرداءة إلى احراج متوقع لقادة "القوات اللبنانية" أمام جمهور مسيحي سيبدأ بمطالبتهم بإثارة هذه القضية الشائكة.

والحق ان هذا الجمهور المطالب بإعادة النظر في قضيته يمت بصلات ووشائج سياسية وامنية وعسكرية وثيقة ل"القوات اللبنانية" اكثر مما يتصل ب"التيار الوطني الحر" ويتعالق معه بوشائج مختلفة. ما يعني ان "القوات" ستجد نفسها اسيرة بين حدين، حد الجمهور المطالب بإعادة النظر في قضية هؤلاء وحد التحالفات السياسية التي ترتبط بها، والتي ترفض من جهتها كل بحث في هذا الموضوع. فمثل هذا الطلب الملح والضاغط إذا ما تمت الاستجابة إلى مفاعيله بحجة عفو الله عما مضى، وطي الصفحة الجديدة من فصول الحرب الأهلية الباردة، يجعل انجازات الطوائف الأخرى، الشيعية منها خصوصاً محل أخذ ورد. فكيف والحال هذه يستقيم التحرير وهو امر بالغ الأهمية للشيعة والبلد على حد سواء، بوصفه مكوناً من مكونات هوية البلد اليوم، من دون التشديد على الإنجاز بوصفه ملكاً للبلد وليس جزءاً من حرب أهلية لم تضع اوزارها.

غاية الإثارة في هذا المقام ان يتحول "جيش لبنان الجنوبي" فئة اهلية من فئات البلد الأهلية المتحاربة، يستند في حربه وسلمه إلى تحالف مع طرف اقليمي، مثلما يستند خصمه، "حزب الله"، إلى طرف اقليمي آخر. بهذا المعنى يصبح انجاز التحرير مجرد استئناف لحرب اهلية لم تنته فصولها. وفي هذا ما ينزع عن الشيعة بعض اسباب اتصالهم بمباني الدولة اللبنانية ومعنى الوطن وانجاز هويته المطلوب الاتفاق عليها وحمايتها. على هذا يكسب "التيار الوطني الحر" نقطتين بالغتي الأهمية. فهو من جهة اولى يحرج الخصم الداخلي، ويجعله من دون حليف، او يدفعه إلى تجاهل مزاج الشارع المسيحي والجمهور الذي يؤيده فينزع عنه صفة تمثيلية مشكوك في صحتها بموجب ما افرزته الانتخابات الأخيرة. لكن هذا التحليل ينزع، من جهة ثانية، عن "التيار الوطني الحر" حجة اثيرة من حججه على مدى الأسابيع الماضية. حجة عبوره الطوائف واصراره على محاربة الفساد ومطالبته بإصلاح النظام. ليتم بذلك الطرح نزع ورقة التين الأخيرة عن لاطائفية التيار المدعاة، وعن عبوره الطوائف والمناطق حاملاً مشروع اصلاح النظام.

ترافقت اثارة موضوع المتعاملين مع العدو الإسرائيلي من جانب "التيار الوطني الحر" وممثليه مع دعوة إلى انصاف الأجهزة الأمنية ومحاولة الدفاع عنها. وقد تلقفت الاطراف المشاركة في السلطة التنفيذية هذه الدعوة وجعلتها حجة في تجديد التهمة إلى الجنرال عون وتياره بالتحالف مع الأجهزة الأمنية التي تعيث في البلد فساداً والتي كانت بحسب منطوق هذه القوى السبب الرئيسي في تردي الأوضاع وووصولها إلى ما وصلت إليه اليوم. لكن هذه الحجة التي تفيد في سجال شعبوي على نحو من الانحاء ليست حجة مناسبة للمواجهة مع التيار. فليس ثمة عاقل يفترض ان في وسع البلد ان يتقدم ويستقر من دون قوى امنية واجهزة فاعلة.

والحق ان مثل هذه المعركة التي تخاض ضد الأجهزة الأمنية انما تخاض بوصف هذه الاجهزة ذات توجه سياسي وليس بوصفها غير ضرورية او غير ذات فائدة للبلد وامنه واستقراره. والحال إن الاجهزة الأمنية مقبولة وضرورية إذا ما توافقت توجهاتها مع توجهات القوى المؤثرة في البلد. وحيث ان القوى المؤثرة لا تتفق على سياسة عامة وتختلف في كل التفاصيل، فإن الدور العام المفترض بالقوى الأمنية ان تؤديه يصبح معطلاً على نحو فاضح وخطير. المسألة تتعلق في حقيقة الأمر بأي قوى ولمن تتبع في توجهاتها وسياساتها، واي توجهات تخدم ولصالح اي قوى مؤثرة. وحيث ان التوافق بين القوى المؤثرة في البلد يكاد يبدو مستحيلاً، فإن هذه القوى تصبح معطلة وغير قادرة على الفعل. لكن "التيار الوطني الحر" يغرف من تاريخ خاص ويتجه نحو استعادته حيال القوى الأمنية وطبيعة دورها المقبل. كما لو ان الجنرال وتياره يطمحان لاستعادة دور سبق له ان كان حاسماً ووازناً لهذه القوى. انه بمعنى من المعاني يطالب بأن تعود القوى الأمنية إلى الحاضنة التي نشأت فيها اصلاً. حاضنة المارونية السياسية التي جعلت من الجيش والقوى الأمنية اداة من ادواتها في تثبيت سلطتها وهيمنتها في الجمهورية الأولى. اي عودة القوى إلى الوضعية التي كانت عليها سابقاً والتي كان الراحل كمال جنبلاط لا يكف عن التساؤل عن الكيفية التي يمكن من خلالها اختراق هذا الحصن الماروني بامتياز. والحق ان هذا الحصن تم اختراقه فعلاً خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، لكن هذا الاختراق لم يتحول في اي حال من الأحوال إلى اكثر من اختراق أو، في احسن احواله، إلى احتمال استبدال هيمنة بأخرى. فحين يكون الجيش المتحالف مع "حزب الله" في السنوات الماضية هو حجة المعارضين للجزر الأمنية والمطالبين ببسط الدول اللبنانية سلطتها على الأراضي اللبنانية كافة، وهو ما يتخوف "حزب الله" من احتمال حصوله، ويرفض رفضاً قاطعاً انتشاره في مناطق نفوذه، فهذا يعني بداهة ان هذا الجيش لم ينجز تحوله، ولم يصبح اداة من ادوات تثبيت هيمنة الحزب الأمنية التي كانت ولا تزال بينة في مناطق نفوذه، وكثيراً ما امتدت إلى خارجها خلال السنوات السابقة. والحال إن تعطيل الدور الذي يفترض بالجيش والقوى الامنية ان تقوم به كان الوسيلة الأنسب لتثبيت الوضع على ما هو عليه من تفتت وانقسام، وتعيين حدود وخطوط تماس بين القوى اللبنانية الوازنة. الجيش المهجور واليتيم والذي يبحث عن أب وأم لا يصح ان ينتسب إلا إلى ابوة الدولة الجامعة. والدولة الجامعة بالنسبة إلى "التيار الوطني الحر"، على ما يظهر، هي التي تستعيد جماع قبضتها من تاريخ سابق على الحرب، وتفترض ان الإقرار بجدواه هو سلاح من أسلحة استعادة المارونية السياسية حظوظها في الهيمنة على البلد مرة أخرى. هيمنة تستند هذه المرة إلى الخواء والتفتت وليس إلى مشروع جامع ينضوي تحت إطاره الجميع ويمكن الدفاع عنه.

اسلحة "التيار الوطني الحر" وهو يحكم مقاليد تمثيله لمارونية سياسية مستجدة، ليست كلها منزوعة ويطمح إلى استعادتها. فثمة ايضاً وأساساً سلاح من أمضى الأسلحة على المستوى اللبناني العام ما زالت المارونية السياسية في لبنان تمتلك مقاليده او معظمها على الأقل. انه سلاح الهوية اللبنانية الأصيلة والتي كانت ولا تزال تفعل فعلها في السياسة اللبنانية. والحق ان اقفال الحدود البرية مع سوريا على النحو الذي جربته الإدارة السورية سلح هذه الهوية ببعض أعتى اسلحتها وأكثرها قدماً. كانت الحدود المقفلة تعني للبنانيين ان ثمة طريقا واحدا يمكن ان يسلكه لبنان إذا ما قرر الحفاظ على انتماء عروبي ما. هو طريق الانضباط تحت سقف هيمنة سورية مستندة إلى احكام جغرافية جائرة. وهذا في حد ذاته يطرح على بساط البحث مرة أخرى ضرورة التفكير ملياً في سبل الالتفاف والتحايل على جور الجغرافيا واحكامها مما يجعل ظهر البلد ووجهه إلى البحر معاً وجميعاً في آن واحد . لكن الخارج الجائر ما كان يمكنه ان يكون سلاحاً فاعلاً لولا ان البنيان الأصلي للهيمنة المارونية السابقة ما زال يملك بعض أهم مقوماته. فاتصال لبنان بالعالم له بنية تحتية، يحتكر الموارنة معظم مفاتيحها. هذه البنية التحتية هي التي جعلت جولة البطريرك في أميركا وأوروبا ذات ثقل هائل على الوضع الداخلي في بداية العقد الحالي. وهذا معنى المطالبات المتكررة بحق المغتربين في الانتخاب وإعادة الاعتبار للبنان المغترب. والحق ان الموارنة يملكون بالرسائل البريدية وحدها والحوالات المصرفية المحولة من المهجر إلى لبنان مفاتيح البنية التحتية لاتصال لبنان بالخارج عبر الدياسبورا اللبنانية المنتشرة في بقاع العالم. هذه الدياسبورا ليست من دون تأثير على كل حال، وليس ثمة من يستطيع ان يجادل في الدور الذي أدته الجالية اللبنانية في الولايات المتحدة واستراليا وكندا وفرنسا في تحديد الاسس التي تقوم عليها صورة لبنان في الخارج. فكانت هذه الصورة على مدى العقد الماضي صناعة مارونية بامتياز.

في بلد أخرجته اسلحة الطوائف طوال العقدين الماضيين من قدرته على تشكيل اكثريات غير عددية تتصل بالدور والموارد والقوى المؤثرة اقتصاداً وثقافة واجتماعاً، يبدو الطموح نحو استعادة تشكيل مثل هذه الأكثريات محفوفاً بكل انواع الأخطار ويهدد البلد في صلب أمنه الأهلي، وخطوط تماسه.

الأمر الذي يجعل المرء يحدس ان تشكيل اكثرية ذات موارد وازنة من هذا المرجل الذي يغلي بالانقسامات وينبذ من حوافه واطرافه كل احتمال مشترك بين اللبنانيين، أمر مستحيل لا يمكن المراهنة عليه من دون المغامرة بالبلد جملة وتفصيلاً.